شيرين محمد: مع بداية الحراك الشعبي في سوريا ازداد العمل والنشاط في مجال التربية المدنية، التي تعني مجموع البرامج التي تعرّف بالقواعد الأساسية ومقومات المؤسسات في النظام السياسي الديمقراطي، والتي تشيع عن طريق المعرفة بالحقوق والممارسات الديمقراطية، والمساواة بين الجنسين، والعمل الجماعي. في المقابل يتمكن المواطنون، بفضل اتساع معرفتهم بحقوقهم الدستورية والتقنيات المعتمدة في تنظيم المجتمع المدني، من المشاركة الفعلية في عمل المجتمع المحلي ومؤسسات الحكم وفي رسم السياسات.1016999_665250446856633_3719420447394261029_n

انتشرت هذه الأنشطة داخل سوريا وخارجها، وتنامت في ظل توفر الدعم لها من قبل منظمات وهيئات ذات طابع دولي وإقليمي، فاحتلت التربية المدنية حيّزاً واسعاً من التدريبات والدورات التي تلقاها الناشطون رجالا ونساء. وبالرغم من الجهود التي تبذل إلا أن النشاط لم يصل إلى المستوى المطلوب بعد، ويعود ذلك إلى أننا لم نعش أو نعاصر التحولات الفكرية لمفهوم المجتمع المدني والتربية المدنية، التي وصلتنا في صيغة أفكار معلبة وجاهزة مثل مفهوم الديمقراطية.

يعود مفهوم المجتمع المدني والتربية المدنية من حيث الأصول إلى القرن السابع عشر. حيث كانت التصورات الأولى لمفهوم المجتمع المدني في أوربا تعني الدولة خلافاً لما يعتقد، وكان الفهم الأول للمجتمع المدني في ذلك الوقت يقابل مفهوم المجتمع الطبيعي، المجتمع الذي يعيش بدون تنظيم سياسي وبدون دولة وينظم نفسه على شكل تعاقدات اجتماعية، إذ أن المجتمع مؤلف من أفراد لديهم استقلال ذاتي، وهؤلاء الأفراد قادرون على تشكيل مجتمع وفق أسس وأصول محددة، هذا المجتمع هو الدولة، ومنذ ذلك الحين مرّ المجتمع المدني بالكثير من التطورات والتحولات.

هناك من يعتقد أن المنظمات هي ذاتها المجتمع المدني، إلا أن الاتحادات والجمعيات التي تشكل جزءاً  من المجتمع المدني هي تطور متأخر في مجتمعنا بخلاف أوروبا، التي وصلت لما هي عليه بعد تاريخ طويل من مساهمات أفراد أحرار وجهود الفلاسفة والمنظرين السياسيين.

إن الأساس الذي يكوّن المجتمع المدني هو مواطن فرد وحر، أي أن الاتحادات والنقابات والأحزاب…إلخ، وحدها لا تمثل المجتمع المدني بل هو حصيلة تطورات فكرية تراكمية عبر مراحل كثيرة من تاريخ المجتمع، وبالتالي فهو مجتمع قادر على إنتاج نفسه خارج آليات ممارسة الدولة لسلطاتها.

في وضعنا الراهن نجد الكثير من المنظمات غير الحكومية والاتحادات التي يتمحور دورها على حث المواطن الانخراط في المجالات الفكرية والتوعوية، عن طريق التربية المدنية، وتنظيم دورات تدريبية وتثقيفية حول موضوعات ذات صلة بتعميق روح المواطنة والشعور الوطني، والعمل كأفراد فاعلين في المجتمع واتخاذ القرارات، بالإضافة إلى التحرر من قيود الانتماءات الفردية والانتماءات الطبيعية، وهكذا نستطيع أنّ نعرّف التربية المدنية ونحدد الاستراتيجية التي يجب العمل وفقاً لها، للوصول إلى بناء مجتمع مدني.

التربية المدنية في العرف المدرسي مادة تعليمية استراتيجية من بين المواد المدرجة في المناهج التعليمية. تهدف أساساً إلى تنمية الإحساس بالمصلحة العامة واحترام القانون وحقوق الإنسان، تقوم على تكوين الفرد تكويناً اجتماعياً وحضارياً، يؤهله للعيش كمواطن صالح، يشعر بمسؤوليته، واعٍ بالتزاماته، كعضوٍ كامل الحقوق في المجتمع الذي يساهم في بنائه، يدرك ما له من حقوق وما عليه من واجبات، متشبع بشخصيته الوطنية، منفتح على القيم العالمية، قادر على التكيف مع الوضعيات، ومجابهة المشاكل التي تواجهه في حياته اليومية. وتهدف التربية المدنية في هذا المستوى إلى تدعيم وتعميق المكتسبات القبلية بواجبات المواطنة والسلوك الديمقراطي، وحسن الاتصال والتواصل واكتشاف العلاقة ببعض المؤسسات الوطنية والعالمية.

ما تزال المنظمات حتى الآن تخطو خطواتها الأولى على طريق التربية المدنية وإقامة مجتمع مدني متحضر منفصل عن الدولة وأجهزتها، وقد مهدت ظروف الصراع والاضطرابات التي عصفت بسوريا، على ظهور العديد من المنظمات والجمعيات العاملة في مجال العمل المدني والتي تساعد بدورها في تحديد ملامح نشوء مجتمع مدني معاصر في البلاد رغم الصعوبات التي تعترض طريق هذه المنظمات والجمعيات، ورغم صعود بعض القوى المتشددة المناهضة لفكرة العمل المدني في البلاد، إلا أن العديد من نشطاء الحراك المدني لم يتخلوا عن مشروع المدنية الذي وجدوا فيه الخيار الأفضل، من أجل الخروج من مستنقع الصراع الدائر، والذي قد يودي في النهاية بسبب تعقيد خارطة توزع القوى المسلحة بمشروع الدولة المدنية التعددية، أدراج الرياح.

الأهداف التي ترمي إليها التربية المدنية عديدة منها: تنمية الأخلاق في نفوس الأفراد من أجل المحافظة على الأخلاق العامة، واحترام الحريات العامة، الارتقاء بالحس الإنساني، رفض التفرقة والتميز العنصري والتأكيد على الحياة الاجتماعية، الانخراط في الجماعة والمجتمع وتقدير الروابط الإنسانية بين الشعوب، كما تساعد الأفراد في التعرف على مؤسسات المجتمع المدني ومساعدتها في تنفيذ برامجها، وإتاحة الفرص أمام جميع المواطنين لممارسة دور فعال في بناء المجتمع، وتحديد ملامح العلاقات التي تربط بينه وبين الفرد،  وبين الفرد والدولة، وكذلك بين الفرد وأقرانه. هذه الأهداف على شموليتها وإحاطتها بكل تفاصيل العلاقات التبادلية بين الوحدة الأساسية في بناء المجتمع الإنساني أي الإنسان والمؤسسات التي ينتجها، تحتاج لترجمة عملية وتطبيقية على أرض الواقع، حتى تتراكم الممارسة وتتكامل مع الأطر النظرية، وهذا يأتي من خلال تعميق دور مؤسسات المجتمع المدني المحلية والوطنية.

بالإضافة إلى ذلك تقوم التربية المدنية بتزويد الأفراد بمفهومي الدولة والمجتمع وترسيخ القيم المترافقة معهما، والكيفية التي تمكنهم من القيام بأدوارهم، ليكونوا أعضاء فاعلين في المجتمع، مع إغناء الأفراد بمفهومي الرعاية الصحية والحماية البيئية، وعدم التعدّي على أي منهما، وتحقيق الأمن والعدالة في المجتمع، عبر سياقات قانونية واجتماعية منسجمة مع البنية المفاهيمية التي تنطوي عليها مؤسسات المجتمع التقليدية (عادات، تقاليد، أعراف … إلخ)، بالموازاة مع عملية تطوير وارتقاء بكل ما هو إيجابي وترسيخه عبر تغذية راجعة جمعية، ونبذ كل ما يمثّل عائقاً أمام صيرورة التطور، عبر توعية الأفراد والجماعات بالمخاطر المتأتية منها، من أجل حصرها ومن ثم التمهيد لإزالتها من الوعي ما قبل المدني.

وجود المنظمات المدنية والاتحادات والجمعيات الطوعية كان أمراً شبه مفقود في سوريا قبل الثورة، ثم بدأت أعمال تلك الجمعيات والمنظمات بالازدياد في الوقت الذي ظهرت فيه عددٌ من هذه المنظمات والجمعيات، وفق صيغ بسيطة في ظل غياب الكوادر ذات الخبرة في هذا المجال، حيث بدأت بشكل عام من مبادرات فردية لأشخاص آمنوا بأهمية العمل المدني وترسيخ قيمه، وتعويم فكرة التربية المدنية تجنباً للمآلات الحادة التي قد تعصف بالبلاد في ظل سيادة ثقافة السلاح واللاتسامح التي بدت وكأنها ملمح عام في المشهد السوري، كان من الطبيعي أن لا تصل هذه المنظمات والجمعيات إلى المستوى الذي تعمل وفقاً له الجمعيات والمنظمات المدنية في أوروبا، والتي تشكل المجتمع المدني فيها، نظراً لخصوصية الوضع السوري والأخطار المحدقة ببناه الفوقية والتحتية وتراتبياته الاجتماعية. إلا أنها ورغم ذلك تحاول السير على خطى التقدم وتسعى إلى تحقيق أهداف التربية المدنية، وإن في الحد الأدنى.

لعل الحيّز الأهم لعمل منظمات وجمعيات المجتمع المدني السورية في ظل الصراع القائم هو الحفاظ على مسافة أمان بين كل المكونات، والتي كانت إحدى الصفات المميزة لصيغ الحياة المدينة خلال العقود الماضية، رغم حالة التهميش التي طالت الهويات المدنية وما قبل الوطنية، وتفوق الانتماءات القبلية المحدودة على باقي الانتماءات الجامعة والضامنة لصيغ العيش المشترك، ويبقى السؤال حول إمكانية هذه المنظمات والجمعيات في ترسيخ الثقافة المدنية، وعكس رغبة العاملين والمتطوعين فيها ومن خلفهم الجهات الداعمة في جعل الهوية المدنية حالة مستدامة تجمع بين السوريين في ظل الظروف الصعبة التي تعصف ببلادهم.

الضامن الأساسي لتنامي الوعي المدني هو توفر الإرادة في العمل، وإدراك أهميته بين النخب أولاً، ومن ثم الفعاليات والأطر التي تمثل المجتمع المدني بشكل أو بآخر. فما زالت النخب الموجودة منقسمة على نفسها ومتذررة التوجه، ولا تنحو باتجاه الصالح العام مفضلة – في العموم – صعودها «النخبوي» وقلقها على مصالحها أكثر من حرصها على ما يترتب عليها من التزامات في الظرف الحرج جداً؛ الذي بات مهدداً لكل أوجه الحياة المدنية، ولهذا لا يصح الاستخفاف بأي عمل مدني، ولا أية مبادرة تبعث الروح في أي ملمح مدني ولو كانت في طورها الجنيني، تحت دعوى وجوب حمل السلاح وعلو صوت المعركة، فكل طفل يتعلم الرسم والموسيقا، أو كيف يحترم إشارات المرور هو مشروع مواطن جاد محب لبلده، أكثر من ذاك الطفل الذي تنمو خياشيمه على رائحة البارود وغبار الأبنية المتهدمة.

32 replies on “الوعي المدني وضروراته”

  • 06/11/2023 at 7:46 م

    … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 07/27/2023 at 10:43 ص

    … [Trackback]

    […] There you can find 43917 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 01/25/2025 at 5:53 م

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 02/11/2025 at 6:30 م

    … [Trackback]

    […] There you can find 75070 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 02/15/2025 at 5:34 ص

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 02/20/2025 at 4:59 ص

    … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 02/28/2025 at 1:01 م

    … [Trackback]

    […] Here you can find 92135 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 03/07/2025 at 7:08 ص

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • … [Trackback]

    […] There you can find 54882 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 03/12/2025 at 10:39 م

    … [Trackback]

    […] Here you can find 86658 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 03/16/2025 at 6:57 ص

    … [Trackback]

    […] Here you can find 28862 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 03/20/2025 at 6:22 م

    … [Trackback]

    […] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 04/04/2025 at 11:03 ص

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 04/17/2025 at 2:33 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 04/26/2025 at 7:26 ص

    … [Trackback]

    […] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 05/10/2025 at 8:48 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 05/15/2025 at 1:50 م

    … [Trackback]

    […] Here you can find 5198 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 05/20/2025 at 2:34 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 05/23/2025 at 6:38 م

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 06/07/2025 at 1:26 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • … [Trackback]

    […] Here you will find 48013 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • … [Trackback]

    […] Here you will find 75814 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 06/26/2025 at 10:52 م

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 07/15/2025 at 2:00 ص

    … [Trackback]

    […] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 08/04/2025 at 2:20 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 08/16/2025 at 4:37 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 08/29/2025 at 1:44 ص

    … [Trackback]

    […] There you can find 72692 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

  • 09/03/2025 at 4:12 م

    … [Trackback]

    […] Here you will find 92828 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الوعي-المدني-وضروراته/ […]

Comments are closed.