داريوس الدرويش: تتميز منطقة الجزيرة بتنوعها الإثني والديني والسياسي المذهل، فهناك الكرد والعرب والسريان والأرمن وغيرهم من القوميات، بالإضافة إلى المسلمين والمسيحيين والإيزيديين، كما أنها تتنوع من حيث التيارات السياسية السائدة، فهناك العديد من الأحزاب والجمعيات والتوجهات السياسية الكردية والعربية والسريانية والأرمنية، بالإضافة للتوجهات الإيديولوجية اليسارية والقومية والدينية.

يحمل هذا التنوع، بالإضافة إلى محاسن إثراءه للحياة في منطقة الجزيرة، مخاطر أيضاً. فالوجه الجميل للتعددية يُخفي حالة من التنافس، تؤدي بالتالي إلى وقوع النزاعات بين المكونات السياسية والمجتمعية. للأسف، فإن هذه النزاعات (الصحية بمجملها) تتحول إلى حالات من الصراع تؤثر سلباً على الاستقرار، وتؤدي إلى تهديد حالة التنوع الموجودة، وبالتالي تؤدي لنشوب حالة من الصراع الأهلي. 1506900_665602733488071_8901874949946881827_n

تُعنى العدالة الانتقالية إلى حد كبير بمسألة السلم الأهلي، فالمصالحة الوطنية التي تسعى العدالة الانتقالية للوصول إليها، تتضمن وجود حالة من السلم بين المكونات المجتمعية والسياسية يمكن البناء عليها للوصول إلى المصالحة التي تعني الحل السلمي لتلك النزاعات الموجودة -التي ستوجد دائماً- بين المكونات.

تعمل العدالة الانتقالية على تأسيس وترسيخ السلم الأهلي من خلال عدة آليات؛ فالانتقال من الديكتاتورية والشمولية نحو الديمقراطية يضمن استبدال أساليب الاحتكام الديمقراطية في حل النزاعات (الانتخابات، المفاوضات، الحوار … الخ) بالأساليب القديمة، التي تعتمد بشكل أساسي على القمع وانتهاك حقوق الإنسان، وهذا «الانتقال» هو الشق الأساسي من مفهوم «العدالة الانتقالية».

هناك آليات أخرى طورتها العدالة الانتقالية للمحافظة على السلم الأهلي أو تأسيسه، فحملات نشر التوعية في هذا المجال، تساهم في ترسيخ وعي جماعي بالآليات الديمقراطية لحل النزاعات، وتفتح الآفاق أمام القيادات المجتمعية في الاحتكام لتلك الآليات. كما أن مشاركة الفئات الضعيفة في المجتمع (النساء، الأطفال والشيوخ) في بناء العدالة الانتقالية يُعلي صوت هذه الفئات، والتي تمثل الضحايا، في وجه مرتكبي الانتهاكات ممن يصعدون حالة النزاع إلى حالة من الصراع. بالإضافة إلى أن الآلية الأساسية التي تقوم عليها العدالة الانتقالية، وهي تعويض المتضررين ومحاسبة المجرمين، تشكل الضامن الوحيد لتأسيس السلم الأهلي واستمراره، فلا يمكن تخيّل مجتمع تحكمه القوانين (قانون العقوبات، قانون الانتخابات… الخ) التي تساهم في حل نزاعاته بطرق سلميّة، مع وجود أشخاص (طبيعيين أو اعتباريين) قد أفلتوا من العقاب، ولا يمكن تخيّل مجتمع يسوده السلام بشكل طبيعي، بوجود أفراد أو مجموعات لا زالت تعاني من آثار انتهاك حقوقها، وتعاني من تراكم الإحساس بالظلم، والذي سيدفعها، عاجلاً أم آجلاً، إلى استعادة حقوقها بكافة الوسائل المتاحة، ومنها الدخول في صراع آخر يُفشِل كل مساعي السلم الأهلي السابقة.

بالعودة إلى الوضع في منطقة الجزيرة، واستثناءً للحرب التي تشنها القوى الموالية للقاعدة على المنطقة، فإن محفزات النزاع بين المكونات المجتمعية والسياسية موجودة، ويمكن حصرها بقضيّة «العرب الغمر» بالإضافة للنزاع السياسي القائم حالياً بين التنظيمات الكرديّة بشكل عام.

يحمل انتزاع الأراضي من الإقطاعيين الكرد وتوزيعها على عرب الغمر الذين استُقدِموا من محافظة الرقة، بذور صراع سياسي وإنساني في آن معاً، فمن الناحية السياسية، تنظر الحركة السياسية الكردية لهذا الاجراء على أنه يستهدف الوجود الكردي في منطقة الجزيرة، من خلال إحداث تغيير ديموغرافي طويل الأمد في المنطقة، كما تعتبر «الحركة السياسية الكردية» مشروع «الحزام العربي» فصلاً بين المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال الجزيرة وجنوبها.

أما من الناحية الإنسانية، فإن نزع الملكية من الإقطاعيين الكرد من دون تعويضهم (معظمهم رفض استلام التعويض للأسباب السياسية سابقة الذكر) يعد انتهاكاً صريحاً لحقوق الإنسان، كما أن التمييز ضد الفلاحين الكرد ممن استبعدوا من الاستفادة من قانون الإصلاح الزراعي لإحلال عرب الغمر بدلاً عنهم، يعتبر أيضاً انتهاكاً لحقوق الإنسان والمواثيق والأعراف الدولية المناهضة للتمييز، ولا ننسى أيضاً أن هؤلاء «عرب الغمر» قد تم اجتثاثهم من أرضهم ومجتمعهم، واستقدموا عنوة وتحت الضغط الاقتصادي، أو التهديد الأمني في بعض الحالات، إلى منطقة الجزيرة، بعد أن غمرت مياه سد الفرات أراضيهم.

لا بدّ من أجل حلّ هذه القضية، الأخذ بعين الاعتبار كافة الأطراف المتضررة من قانون الإصلاح الزراعي ومشروع الحزام العربي، فإعادة الأراضي إلى ملاكها الأصليين سيكون الحل الأنسب لجميع المشاكل المتولدة عن هذه القضية، وإن كان هذا الإجراء غير ممكن، فإن مهمة الدولة السورية تقتضي إعادة عرب الغمر إلى مناطقهم الأصلية، وتعويضهم بأراض هناك، أو تقديم التعويض المالي لهم، ومن ثم توزع الأراضي في منطقة الجزيرة على السكان الأصليين في تلك القرى، مع دفع تعويض مالي للملاك الأصليين لها، بالإضافة إلى تقديم راسمي ومنفذي السياسات المؤدية إلى زرع هذه المشكلة ضمن المجتمع إلى المحكمة.

ولكن، هذه السهولة في طرح الحل لا تحمل سهولة في التنفيذ أيضاً، بل قد تواجه عوائق جوهرية تنسف الهدف الأساسي للحل، وهو الوصول إلى السلم الأهلي، فيما لم تكن مقاربة الحل ديمقراطية، وهنا من الممكن أن تتدخل المنظمات المدنية بشكل عام، وبخاصة تلك العاملة في مجال العدالة الانتقالية على تهيئة الأرضية للحوار، عبر إشراك المكون العربي الأصلي في المنطقة في المفاوضات الهادفة لإعادة الأوضاع إلى سابق عهدها، وإشراك عرب الغمر أيضاً في هذه الحوارات، بالإضافة للأحزاب السياسية والمنظمات والشخصيات المدنية. كما أن هذه القوى مجتمعة تستطيع العمل على إصدار قانون من الدولة في هذا الصدد، يضمن حقوق جميع الضحايا.

بالإضافة للنزاعات المجتمعية، هناك نزاعات سياسية أيضاً. وفي هذا المجال، يتصدر المشهدَ الإعلامي النزاع القائم بين الإدارة الذاتية الديمقراطية، والتي تضم حزب الاتحاد الديمقراطي وحلفائه، من جهة، والمجلس الوطني الكردي وبالأخص (الحزب الديمقراطي الكردستاني – سوريا) من جهة أخرى، وعلى الرغم من المبررات التي يقدمها كل من الطرفين، فإن الاحتكام للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان يضمن حل النزاع القائم بين هذه الأطراف بسبل سلمية، وما زيادة الانتهاكات المرتكبة بحق أعضاء الجهات السياسية الأخرى، إلا دفعاً للأسلوب الديمقراطي إلى الخلف، وتصدّر أسلوب الصراع للواجهة. وهنا يمكن أن تلعب العدالة الانتقالية بالإضافة لمنظمات المجتمع المدني الأخرى، دوراً توفيقياً بين القوى السياسية، بوصفها عملية مستقلة سياسياً، من خلال إجراء حوار عام بين هذه القوى في منطقة الجزيرة، بحيث تكون شاملة وهادفة للوصول إلى الحل؛ عبر التشجيع على تقديم التنازلات بين جميع الأطراف، ودفع الأطراف السياسيّة لتحمّل مسؤوليّاتها من خلال التأكيد على تفعيل الآليّة الأساسيّة للعدالة الانتقاليّة ألا وهي، تعويض المتضرّرين ومحاسبة المجرمين.

21 replies on “العدالة الانتقالية والسلم الأهلي في منطقة الجزيرة”

  • … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • 07/21/2023 at 4:14 ص

    … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • 08/09/2023 at 5:10 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • 01/21/2025 at 9:28 ص

    … [Trackback]

    […] Here you will find 47601 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • 01/24/2025 at 9:33 م

    … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • 01/25/2025 at 2:19 م

    … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • 01/28/2025 at 6:08 ص

    … [Trackback]

    […] There you can find 12467 more Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • 03/05/2025 at 2:48 م

    … [Trackback]

    […] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • 03/12/2025 at 11:56 م

    … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • 04/05/2025 at 2:25 م

    … [Trackback]

    […] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • 04/11/2025 at 12:01 ص

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • 04/11/2025 at 8:51 ص

    … [Trackback]

    […] Here you can find 56818 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • 04/28/2025 at 1:57 ص

    … [Trackback]

    […] Read More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • … [Trackback]

    […] Here you will find 31182 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • 06/08/2025 at 11:42 م

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • 06/20/2025 at 9:51 م

    … [Trackback]

    […] Here you can find 26514 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

  • 08/11/2025 at 7:42 م

    … [Trackback]

    […] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/06/العدالة-الانتقالية-والسلم-الأهلي-في-م/ […]

Comments are closed.