المفهوم والأبعاد وسبل المكافحة
أحمد إلياس
يُقصد بالتمييز العنصري حسبما عرفته الفقرة الأولى من المادة الأولى في الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 5691، بأنه «أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الاثني، ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان أو الحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها على قدم المساواة؛ في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي ميدان آخر من ميادين الحياة».
ويشمل التمييز أيّة مذاهب عنصرية أو مواقف تحيّزية أو أيّة أنماط من السلوك التحيّزي أو أيّة ترتيبات هيكلية وممارسات متجسدة في قوالب مؤسسية، تؤدي إلى خلق تفاوت عنصري، كما تشمل الدعاوى الزائفة بوجود مبررات أخلاقية وعلمية لقيام علاقات عنصرية بين الجماعات، والتي تنعكس في صورة أحكام تشريعية أو تنظيمية وممارسات تمييزية، وكذلك في صورة معتقدات أو تصرفات مناهضة للحياة المجتمعية.
ارتبط التمييز العنصري تاريخياً بعدم المساواة في السلطة، وساعدت على تجذره الفروق الاقتصادية والاجتماعية، حيث إن التنكر للمبادئ الديمقراطية المؤصلة لحقوق الإنسان ومساواة البشر، غالباً ما يؤدي إلى استغلال جهات معينة (حكومات- أحزاب) للجهل البشري ومحاولة التحيّز لمذهب تفاوت البشر والتمايز العنصري؛ على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو الأصل القومي أو اللغة أو الدين.
ومن أهم الحقوق التي قد تتعرض للتمييز العنصري، حق التمتع بالحماية المتكافئة والأمن الشخصي، وحق ممارسة حرية الفكر والدين والعقيدة وحق حرية الرأي والتعبير، وحق التحدث باللغة الأم، وحق الجنسية والترشح والانتخاب، وحق اللجوء، وحق الاحتكام إلى القضاء والطعن في الأحكام.
التاريخ الحديث حافل بالعديد من حالات التمييز العنصري، حيث يعتبر ما تعرض له السكان ذوو البشرة السوداء في جنوب افريقيا في ظل سياسة الفصل العنصري – كأحد أشكال التمييز – من أشهرها على الاطلاق، بعدما عمدت الحكومة بعد انتخابات عام 8491 إلى إصدار قوانين قسمت بموجبها السكان إلى أربع مجموعات عرقية (السود، الهنود، الملونون، البيض)، ومن ثم عزل بعض المناطق السكنية من خلال التهجير القسري، وحرمان بعض الجماعات العرقية من الجنسية، أو عدم السماح لها بتولي الوظائف الحكومية ولاسيما السيادية.
غير بعيد عن ذلك، تأتي الحرب الأهلية في السودان، والمصنفة كأطول حرب أهلية في تاريخ القارة الافريقية، حيث استمرت ما يقارب 02 عاماً، انتهت بانفصال جنوب السودان عن حكومة الخرطوم، وكانت نتيجة لعوامل متداخلة من أهمها التمييز العنصري القائم على أساس الدين ونظرة الحكومة إلى الجنوب بحسبانه امتدادا للعالم الافريقي المسيحي، ولجوءها إلى سياسة تطبيق القوانين الإسلامية على سكان الجنوب، وهو ما ينطبق على الصراع المستمر في دارفور القائم على خلفية عرقية بين القبائل العربية والقبائل الافريقية. كما إن الحرب الأهلية في رواندا بين قبيلتي الهوتو والتوتسي عام 4991 كانت مبنية على الكراهية العرقية المتبادلة بين القبيلتين، وفي البوسنة اتخذ الصراع شكل الحرب الدينية بين الصرب المسيحيين والبوسنيين المسلمين، يضاف إلى ذلك انفصال تيمور الشرقية عن اندونيسيا، والإبادة الجماعية ضد مسلمي بورما في قارة آسيا.
وانطلاقاً من المخاطر المترتبة على التمييز العنصري بأشكاله المختلفة، وما تمثله من إهانة وتعدي على الكرامة الإنسانية، وما قد ينجم عنها من شيوع الفرقة وعرقلة التعاون الدولي، وإثارة التوترات السياسية بين الشعوب، سعى المجتمع الدولي لتجنيب البشرية آفة العنصرية عبر العديد من الاتفاقيات والإعلانات الدولية، مع فرض التزامات على الدول تصب في خانة الجهود الرامية لمكافحة العنصرية، وصولاً إلى عدّ بعض أشكال العنصرية بمثابة جرائم دولية، وهو ما ينطبق على جريمتي الإبادة الجماعية والفصل العنصري، واللتان تختص بالنظر فيهما المحكمة الجنائية الدولية، وبعبارة أخرى إقامة ربط مباشر بين العنصرية وتهديد الأمن والسلم الدوليين.
فميثاق الأمم المتحدة ينص في ديباجته؛ «إن المنظمة تنطلق من التركة التاريخية الثقيلة للحربين العالميتين، ومن الإيمان المشترك بالحقوق الأساسية الإنسانية، والمساواة بين الرجال والنساء والأمم». وبدوره ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 8491 «إن الإقرار لجميع أعضاء الأسرة البشرية بالكرامة والحقوق المتساوية والثابتة؛ هو أساس الحرية والعدل والمساواة، وإن تجاهل ذلك أذكى نار الحروب في العالم». ويتضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 6691، والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 5691، وكذلك الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها لعام 3791، والاتفاقية الدولية الخاصة بمكافحة التمييز في مجال التعليم لعام 0691، وأيضاً الاتفاقية الدولية الخاصة لمناهضة الفصل العنصري قي مجال الألعاب الرياضية لعام 5691، نصوصاً مشابهة لما سبق.
تنطلق الاتفاقيات الدولية في معالجتها لمشكلة التمييز العنصري من وحدة نوع وأصل البشر، وبأن الجميع يولدون متساوون في الكرامة والحقوق، ويشكلون جزءاً لا يتجزأ من الإنسانية، وأن أيّة نظرية تنطوي على زعم أن مجموعة عنصرية أو إثنية معينة هي بطبيعتها أرفع أو أدنى شأناً من غيرها – ما يعني منح الحق لجماعة معينة بالتسلط أو القضاء على غيرها – هي نظرية لا أساس لها من العلم، ومناقضة للمبادئ الأدبية والأخلاقية والإنسانية.
على إن هذه المساواة ووحدة النوع والأصل البشري لا تنال من حق الأفراد والجماعات في أن يكونوا مغايرين بعضهم عن بعض في أساليب العيش، أو في وجود فروق بينهم مصدرها تنوع الثقافات والظروف البيئة والتاريخية، أو من الحق في الحفاظ على الهوية الثقافية، كما إن هذه المساواة لا تسري بخصوص أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل مصدره الجنسية أو المواطنة، شرط أن لا تتضمن تمييزاً ضد جنسية معينة، مع الإقرار بأن جميع الشعوب تتمتع بقدرات متساوية على بلوغ أعلى درجات ومستويات النمو في جميع الميادين؛ بيد أنه لا يجوز لتنوع أنماط العيش والحق في المغايرة أن يتخذ في أيّة ظروف ذريعةً للتحيّز.
وبموجب الاتفاقيات السابقة؛ فإن جميع الدول تتحمل واجب كفالة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، واتخاذ ما يلزم من تدابير وسياسات تنصب لصالح تكريس هدف مكافحة التمييز العنصري، من أبرزها:
– سَن التشريعات اللازمة لمنع وإنهاء أي شكل من أشكال التمييز العنصري، وإعادة النظر في أي سياسات حكومية قد تكون مؤدية للتمييز.
– ايجاد جهاز إداري للتحقيق والكشف عن أشكال وسلوكيات التمييز.
– تجريم سلوكيات التشجيع أو التحريض على العنف المبني على أسباب عنصرية، وحظر المنظمات التي تقوم بهكذا أفعال وتجريم تمويلها أو الانضمام إليها.
– تشجيع المنظمات والحركات الاندماجية، واتخاذ ما يلزم من تدابير إيجابية في الميادين الاجتماعية والثقافية والتربوية؛ لإذكاء الاحترام المتبادل بين الجماعات وضمان مشاركة المواطنين في مراحل اتخاذ القرار في الجماعة.
– اتخاذ الاجراءات الكفيلة بتأمين وحماية بعض الجماعات العرقية، لضمان وصولها إلى التمتع الكامل بحقوق الإنسان.
وعلى الرغم من الجهود العديدة في سياق مكافحة التمييز العنصري، إلا أنها لم تحقق الأهداف المرجوة منها، حيث بقيت الأسباب الجذرية والثانوية للتمييز باقية وبارزة في معظم الأمم، وبشكل عابر للحدود الوطنية، سواء بممارسات تتراوح بين صيغ التمييز اللفظية، وصولاً إلى استخدام العنف، مع بروز أشكال جديدة للتمييز في مقدمتها ظاهرة إرهاب الأجانب، وعودة ظهور الفاشية والنازية الجديدة، والايديولوجيات القومية الداعية إلى العنف والتحامل العنصري والقومي، لاسيما بعد اختراق هذه الظواهر لبرامج العديد من الأحزاب الديمقراطية، ومن ثم اضفاء نوع من الشرعية عليها، واستخدامها كأداة سياسية في الانتخابات والاستحقاقات الداخلية، بموازاة تراجع أسباب مكافحة العنصرية وعدها أمراً طبيعياً، وتصوير التخلف على أنه نتيجة لثقافات وتقاليد المجتمعات، وارجاع الحروب لأسباب عرقية وليست سياسية، ولعلّ هذا ما دعا المقرر الخاص المعني بأشكال العنصرية المعاصرة والتمييز العنصري المعتمد من قبل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى عد العنصرية وكراهية الأجانب «أكبر تهديد للديمقراطية في الوقت الراهن».
كذلك شهد العقد الماضي تنامي ظاهرة كراهية الإسلام، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول، والتوجه إلى تصوير المسلمين كمعارضين للقيم الغربية وكتهديد للقيم الوطنية، والتماسك الاجتماعي في بلدان المهجر، وصولاً لتعالي الدعوات المطالبة للمسلمين بالتخلي عن تراثهم الديني وهوياتهم المميزة والانصهار في بوتقة الثقافات المحلية.
وغنيٌّ عن الذكر، أن ظاهرة التمييز العنصري ضد المرأة ما تزال قائمة بمختلف أشكالها، في ضوء عدم ايفاء العديد من الدول بالتزاماتها الدولية في وضع الأسس القانونية لتحقيق المساواة بين الجنسين، في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
27 replies on “التمييز العنصري في مواثيق حقوق الإنسان”
… [Trackback]
[…] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Here you can find 18400 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Here you will find 42475 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Here you can find 48871 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Here you can find 2537 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
… [Trackback]
[…] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/01/التمييز-العنصري-في-مواثيق-حقوق-الإنسا/ […]
Comments are closed.