لم يكن تنوع المجتمع في منطقة ديرك بِكُرده و أرمنه وسريانه وكلدانه، وليد الظروف السياسية فحسب، بل هو امتداد لوجودٍ حضاري و ثقافي للكرد والمسيحيين .(يُقصد بالمسيحيين القوميات التي تدين بالدين المسيحي في المنطقة ،وهم الكلدان والسريان والأرمن) .فديرك وما يحيط بها كانت ريفاً لمدينتي (جزير وشرنخ)، وقد كانت ضمن مناطق المراعي الشتوية (كرميان) لعشائر الكوجر بشكل رئيسي، وكذلك عشائر الهسنا وهارونا وغيرهم .هذا قبل أن تصبح ضمن حدود الدولة السورية الناشئة، بعد توقيع اتفاقية سايكس بيكو، لتتحول فيما بعد ملاذاً آمناً لقوافل الكرد والمسيحيين الهاربين من قبضة الأتراك العثمانيين، و من خلفوهم في الحكم.

وجد أبناء الطوائف المسيحية الهاربين من بطش الاتحاديين ملاذا آمنا في المنطقة، واستطاعت أن تشكل مع الكرد نسيجاً مجتمعياً .فتلك القوافل التي ضمت قوميات وطوائف مختلفة، وبالتعاون مع العشائر المتنقلة، اضطروا فيما بعد لبناء مدينة ديرك في صورة شبه مستنسخة عن مدينة جزير في شمال كردستان، لتكون ديرك شكلاً من المحاكاة لجزير في طبائع سكانها وتشكيلها العمراني ،وتعويضاً حضارياً ووجودياً لما افتقده هذا النسيج المجتمعي، من مراكز حضرية مثل مدينتي جزير وشرنخ على الطرف الآخر من الحدود المستحدثة، وهذا يعني أن أهالي منطقة ديرك كانوا توّاقين إلى المَدنية، إذ توجه القسم الأكبر منهم إلى امتهان الحرف، وأرسلوا أولادهم للمدارس والمعاهد والجامعات.

التوق إلى المَدنيّة أضعف الطابع العشائري، ودفع الذاكرة الشعبية لأخذ مناحٍ مختلفة من التطور، وفي منطقة ديرك وما حولها تطورت الذاكرة الشعبية تبعاً للضرورة .فقد عطلت في هذه الذاكرة كل الأحداث المحرّضة على العنف، وهذا التعطيل هو سمة حضارية تدلُّ على وعيٍ بضرورات التجاور ووحدة الحال، وقد أسهم الوجهاء ورجال الدين في لجم العنف المحتمل على خلفيات أحداثٍ متفرقة، حصلت خلال عقود مرت على نشأة ديرك. وهذا يدل على سمة تحضرٍ و تعقل، حدّت من تنامي أحداث حصلت؛ كمقتل الشاب الكردي جوان سنة 2007 على سبيل المثال ،والذي اتهم بقتله شبان مسيحيون .فقد أبدى المجتمع في ديرك حكمة وتعقلاً كبيرين مع أن الحدث هز وجدان عشرات الآلاف من أبناء المدينة وريفها،و انتقلت أصداؤه لباقي مدن منطقة الجزيرة، ولو لم يقيض للمدينة هذا القدر من التعقل لانحدرت الأمور لتداعيات خطيرة ومؤلمة.

يأتي استذكار مجتمع ما لأحداث دون أخرى ،كعلامة على تطور ذلك المجتمع، ولهذا المسلك المجتمعي أبعاد تربوية، بمعنى خلق مناخات لقابلية التأثّر والتأثير ،التي تعتمدها المجتمعات لمنع انغلاق الأجزاء على بعضها ،بل إعادة تدوير الأحداث وإنتاجها  مفاهيم ورؤى إيجابية، إذ لا يمكن لشريحةٍ ما في مجتمع معين، ممارسة تأثير حضاري على شريحة أخرى أو التأثُّر بها خلال فترة زمنية قصيرة، دون أن تكون كلتا الشريحتان متأصلتين ومتماسكتين، وهذا لا ينطبق فقط على الشرائح الإثنية، بل وعلى التصنيفات العشائرية وحتى على الأطر والتصنيفات السياسية بشكل من الأشكال، ووجود مناخ قبول الآخر ،خلق فضاءً مقبولاً لعملية التأثر والتأثير ،وفَتح فضاءً من الانفتاح على جميع المستويات، لذلك لم نجد على سبيل المثال تعريفاً عشائريّاً للمراكز السكنية أو لجغرافيةٍ معينة باسم قاطنيها، على غرار ما نجده في مجتمعات أخرى “مثل المجتمعات العراقية،حيث تعرف قرية ما باسم العشيرة التي تسكنها” .وفي المنحى نفسه لا نجد قرًى في ريف ديرك ملّونة بلون عشائريّ واحد ،بل ما من قريةٍ إلا ويتوفر فيها عائلات تنتمي لعشائر مختلفة، وهذا التّنوع ساعد على إنتاج مفهوم مدني وهو الارتباط بالمركز الحضاري “القرية” وليس بالمفاهيم القبلية، بل نجد نماذج من القرى المختلطة بين العرب والكرد مثل قرية “كرزيرو، شيرو” ، أو الكرد والمسيحيين مثل قرية “بورزي، كاني بيفازي”، كما أنّ انتقال عادة اجتماعية من شريحة مجتمعية الى أخرى أو سهولة تقبّلها ،ساهم في تطبّع المجتمع بسمات عامة من حيث التآلف واللين وسهولة المعشر.

وتأصيل الجزء كونه جزءٌ مهمٌ من الكل، لم يأتِ بناءً على لوائح وقوانين فرضتها حكوماتٌ معينة، وإنّما جاء نتاجاً للعادات والأعراف ذات البعد الأخلاقي القائمة على احترام الخصوصية والحرص على استمرارها، ولعل قصّة تَكفُّل نايف باشا شيخ عشيرة كوجر-ميران ببناء كنيسة السريان بمدينة ديرك سنة 1952، لها قيمة حضارية رفيعة، ستظل آثارها باقية. وهو مثال الحرص على خصوصية الجزء المختلف والتعامل معه كقضية عامة وجوهرية.

ولكنّ هذه الصورة المثالية شابها بعض التأثر بالسياسات،التي تأثّرت بها المنطقة سواءً في تخوّف المسيحين من تنامي الوعي القومي الكردي، أو في استفادة بعض الشرائح المجتمعية من طبيعة وممارسات سياسات الأنظمة الحاكمة؛ مثل استقدام العرب المغمورين في سبعينيات القرن الماضي ومنحهم أراضٍ زراعية ،تعود ملكيتها الحقيقية لسكانها الكرد، أو إعطاء السلطات الأمنية  على سبيل المثال ميزات للمسيحيين في الاستفادة من مؤسسات الدولة والظفر بالوظائف الحكومية، ولكن مع ذلك لم يتجاوز استخدام المسيحيين لهذه الوظائف حدود الحاجة المعيشية، ولم يتوجهوا إلى الوظائف التي تقوم بدور سلطوي مباشر مثل الشرطة والأمن، كما إنّهم لم يلعبوا أدواراً هامة في الترويج لسياسات التعريب.

في المحصلة يمكن القول إن الكرد والمسيحيين تناوبوا في الحفاظ على الطابع السلمي لمنطقة ديرك وما حولها، فالكرد فيها لم يكونوا يد العثمانيين الباطشة في مذابح الأرمن والسريان، بل كانوا المنقذ للكثيرين منهم، والمسيحيون فيها حين لم يكونوا يداً لسياسات الأنظمة العروبية، والأهم أنّ التاريخ لم يشهد وجود أحداث انتقامية أو إنشاء مجموعات تتبنى أفكاراً متعصبة، وإن وجود حوادث اصطدام هنا أو هناك كان يتم التعامل معها كأحداث طبيعية، تمرُّ بها المجتمعات وتم احتواؤها لئلّا تكسب خلفيات دينية أو عرقية أو قبلية.

20 replies on “المجتمع في ديرك وموائمة التنوع”

  • … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • 07/19/2023 at 5:18 م

    … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • 01/21/2025 at 7:28 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • 01/28/2025 at 12:51 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • 01/28/2025 at 9:54 ص

    … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • 02/26/2025 at 10:57 م

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • 03/05/2025 at 2:08 م

    … [Trackback]

    […] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • 03/07/2025 at 5:54 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • 03/14/2025 at 11:04 م

    … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • 03/15/2025 at 11:38 م

    … [Trackback]

    […] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • 04/05/2025 at 7:20 م

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • 05/17/2025 at 12:17 م

    … [Trackback]

    […] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • 05/30/2025 at 2:59 م

    … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • 06/06/2025 at 11:29 م

    … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • 06/17/2025 at 4:35 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/المجتمع-في-ديرك-وموائمة-التنوع/ […]

Comments are closed.