ربمّا لم يستطع الأدب تناول مفهوم اللاعنف مجردا، سوى أنّه استطاع خلال أجيال كاملة أن يقارب هذا المفهوم ولو بشكل نسبيّ، بدءاً من الروايات والنصوص والرسائل والشهادات التي كتبت خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وصولاً إلى العصر الراهن الذي يشهد بروز مفاهيم وتجسيدات العنف والعنف المضاد بوتائر عالية مترافقة بكميَّة هائلة من المكتوب والمنتوج الأدبي، كمحاولة للدنو من العنف القائم أساساً على إنتاج فكرة الإيذاء ونبذه، لذا فإن محوريّة الأدب في دنوّه من مفهومة اللا عنف، شيء ضبابيّ نوعاً ما، أي لا يمكن التقاط خيوط جليّة سوى في بعض الأعمال التي كُتبت بشكل غير نموذجي سابقاً (عدا أعمال الفلاسفة ربمّا التي من المجحف إدراجها ضمن تصنيف الأدب) دونما تركيز أو تقصّد مسبق من مجاورة مفهوم اللا عنف في المجتمعات.

في عودةٍ ضروريَّة إلى الخلف، إلى زمن يمكن تسميته زمن تولستوي، الأديب الروسي الشهير، الذي ركّز على فكرة السلام وتحدّث عن الحرب وفظائعها آنذاك بالنسبة لشخصه ولسلامته على الأقلّ، لكن الظروف كانت تحتّم على أن يكون الأديب جزء من ثورة مجتمع معيَّن، أو ربمّا محرّكا لتلك الثورة إذا صحّ التعبير، سنلحظ ازدهار فكرة اللا عنف بدرجةٍ ما ولكن بطريقة غير مباشرة تمثّلت في مساهمة الأديب أن يكون عينا راصدة تكشف جرائم الداعين للعنف، إذ أن أغلب القصص دارت حول السلام والدعاوى لمجتمع مسالم، وقد كانت الدعوة للسلام الراية التي يرفعها الأدباء في كلّ حينٍ وقتها، وربمّا الاستنطاق العظيم للعالم والذي قاله تولستوي نفسه ذات مرة هو الدليل الأقوى على فكرة تأصيل اللا عنف والتي بدت واضحة في أعمال أغلب الأدباء: “”هل تريد إزالة الشر بالشر؟ هذا غير ممكن. لإماتة الشر، لا تفعله“. الجملة الأخيرة التي بنت ربمّا فيما بعد أساس الدفاع عن اللا عنف كمحرّك أساسي للقضاء على الفوضى الأخلاقيَّة وغياب العقل وغيرها من الأمور الملازمة للحروب عن طريق الأدب.

*

هناك أمثلة كثيرة في ردّ الأدباء على فكرة العنف التي استشرت في فترة من الفترات، ربمّا من أشدّ الأمثلة تجسيداً لواقع الدفاع عن فكرة اللا عنف وضرورتها الأساسيَّة هو الفرنسي الحائز على نوبل للأدب: “رومان رولاندوعلى الأخصّ في رسالته المعنوَنة بـ: “إعلان استقلال العقل” –على سبيل المثال لا الحصر، الرسالة التي أيّدها آنذاك أغلب العلماء المعروفين في وقتنا الراهن، إضافةً للأدباء والمشتغلين في الشأن العلمي والثقافي، معتبرينها الرسالة الحقيقيَّة التي لا بدّ لكل مثقف أن يدافع عنها ويتشبثّ بها، أعلن خلال تلك الكتابة المختصرة والمقتضَبة والعميقة خطورة الكراهية والتشبّث بالجهل والظلام والعنف، وضرورة ابتعاد المثقّف عن التشبّث بالحكومات (ليس الأمر منطبقاً فقط على المثقف وإنّما أي انسان يعيش في المجتمع): لقد قامت الحرب ببلبلة صفوفنا وأخذها نحو التخبط. معظم النخب من المثقفين وضعوا علومهم وفنونهم ومنطقهم في خدمة الحكومات. نحن لا نبغي اتهام أحد، أو أن نوجه اللوم لأي أحد. نحن نعرف ضعف النفس البشرية والقوة البدائية للتيارات الجمعية الطاغية التي نَحّت هذا الضعف بلحظة واحدة، ولم يكن هناك أي تحضيرات من أجل المساعدة على مقاومتها. فلندع إذن هذه التجربة تساعدنا على الأقل من أجل المستقبل“. مفردة واحدة تحيل إلى العنف، وهي الحرب، أمر بديهي، ولكن الأهمّ في الفكرة هو الانتباه إلى خطورة ما يمكن أن يسبّبه هذا العنف من تشوّهات فَطَن إليها الأدب وحاول جاهداً أن يحيط بها، الأدب على مختلف أجناسه المتعددة والواحدة الهدف.

*

ينطوي كل عمل أدبي على محاور رئيسة، ربما الدعوة للسلم هي إحدى المواضيع أو المحاور التي تناولتها الكثير من الكتب الأدبيَّة غير أنّها لم تتبلور حتّى الوقت الراهن، ربمّا لأن مفهوم اللا عنف والسلم والغوص في تفاصيلهما تحتاج إلى وقت طويل كي تنضج، أو بالأحرى لم تتمّ معالجتها على الوجه الأمثل، وبعيداً عن تقوقع الأدب خلال فترات ماضية وتمحوره حول ذات الأديب وتفاصيله اليوميَّة، وابتعاده عن الوقوف على مشاكل المجتمع ودمج تلك المشاكل في إطار أدبي بمختلف أشكال الأخير، إلا أنه بدا أمر الدعوة إلى اللا عنف جليّاً في الأدب المنتَج خلال فترة ما سمي بــالربيع العربيوما تلاه من إنتاج موسيقي أو أدبي أو مسرحي. إلخ، بدا أنّ الفكرة دعوة من مجتمع الأدباء (كمجتمع منطلق) أساساً من المطالب الجماهيريَّة إلى اللاعنف كأسلوب من أساليب العمل السياسيَّة والاجتماعيَّة، لكن الظروف الراهنة اختلفت جداً عمّا سبق، فإن كانت الثورة قديماً تعني ثورة في كل شيء وعلى كل شيء، باتَ الأمر مختلفاً في الوقت الحالي، ربمّا السبب هو عدم دراية بأنّ أساس الثورات بدأت من الفنّ والأدب ومن ثم انتقلت لتصبح حالة جماعيَّة شعبيَّة انطلاقاً من فكرة اللا عنف.

الحقيقة الأدبيَّة في مواجهة العنف:

ثمّة نصوص عربيَّة وروايات أجنبيَّة تحدّثت عن موضوعة اللا عنف بشكلٍ غير مباشر، حيث دعا كتّاب تلك النصوص والروايات إلى فكرة السلم ونبذ السلاح، الأخير كتجسيد لفكرة العنف والدم ومحاولة إبعاده عن تفكير الثورات، ربمّا في هذا الأمر نوع من التنبؤ فيما سيحصل في العالم بعد سنوات، ولعلّ من بين الأمثلة الكلاسيكيَّة العربيَّة التي انتشرت هي قصيدة العراقي بدر شاكر السياب الذي يعتبر من أبرز المجددين، والمعنوَنة بـ (السلاح والأطفال)، القصيدة التي ضمّت وبشكلٍ مباشر دعوةً إلى نبذ السلاح عبر مقاربة بليغة الأثر، مسألة الطفل والسلاح الثنائيّة الخطيرة التي يتعامى عنها تجّار الحروب الذين يزجّون بالأطفال في عالم السلاح إما قصفا واستهدافا وإما تجنيدا، والمفارقة تكمن في أن السلطات الديكتاتوريَة في العالم العربي أدرجت هذه القصيدة بشكل اعتباطي ضمن المناهج التعليميَّة في وقتٍ كانت هي (أي السلطات الديكتاتوريَّة) تمارس عنفها على الأدب وعلى المجتمع بأكمله.

الحقيقة الأدبيَّة في مواجهة فكرة العنف ضمن المجتمعات والدعاوي إلى اللا عنف جزء من عمل بعض النصوص والأعمال الكتابيَّة، إلّا أنّ الأمر بقي متعلّقاً بمزاج الأديب وتنشئته، أعني لم يكن ثمّة ترتيب كما حصل لدى بعض الكتّاب الأوروبيين في جعل هذه الدعوة مهمة من مهام الأديب أو المشتغل في المجال الثقافي، أو إن جاز القول، لم تكن هناك ترتيبات وقواعد موضوعة لغاية أن تكون مفهومة اللا عنف أساسيَّة ضمن الأدب (سوى بعض الجماعات القليلة التي مزجت بين الأدب والفنّ الحركي وتصوير العنف كردّة فعل ضده)، أو من بعض الذين عايشوا فترات الحروب والثورات فيما مضى من الأيَّام، وربما السبب في ذلك غامض بعض الشيء ولكن هناك استدلالات معيَّنة يمكن التحجّج بها!، إذ أن بعض الأدباء بالذات كانوا عرضةً للاغتيالات الذي هو الشكل الأعلى من العنفعلى يد المتطرّفين والظلاميين، والأسماء كثيرة ولا تحصى في هذا المقال.

ثمّة بعد غائب في تحديد مهمّة الأدب، أو النصّ الأدبي، أو الجماعات الأدبيَّة في مواجهة العنف (والأمر هذا سوداوي لسوء الحظّ)، إذ أن عسكرة الحياة لا تدع المجال لتنمية دور الأدب في مجابهة التطرّف والدعوة إلى اللا عنف، هذا البعد الغائب جعل من الأدب ومن غرضه الأساسيّ شيئاً غير قابل للنقاش في الوقت الرّاهن، الأمر يحتاج ربما إلى كيانات أدبيَّة حقيقيَّة تحمل هيكليَّة عميقة وخططاً لمجابهة العنف وتحويل اللا عنف إلى قضيَّة أساسيَّة ومطلباً ملح، إذ أنّ المقولات القديمة المستخدَمة أدبيَّاً في مواجهة العنف باتت بحاجة إلى إحياء أو إعادة استنباط بحيث تناسب الأوضاع الراهنة.

27 replies on “لإماتة الشرّ، لا تفعله”

  • 06/22/2023 at 6:16 م

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 07/19/2023 at 4:06 م

    … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 01/15/2025 at 11:22 م

    … [Trackback]

    […] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 01/25/2025 at 9:37 م

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 02/26/2025 at 8:39 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 03/11/2025 at 11:55 م

    … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 03/16/2025 at 3:26 م

    … [Trackback]

    […] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 04/03/2025 at 4:35 ص

    … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 04/11/2025 at 6:52 م

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 04/23/2025 at 7:55 م

    … [Trackback]

    […] Here you will find 65054 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 04/24/2025 at 2:04 ص

    … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 05/30/2025 at 5:12 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 06/01/2025 at 4:05 م

    … [Trackback]

    […] Here you can find 73369 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 06/02/2025 at 11:38 ص

    … [Trackback]

    […] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 06/08/2025 at 10:38 م

    … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 06/09/2025 at 7:29 م

    … [Trackback]

    […] Here you will find 80647 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 07/11/2025 at 5:04 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 07/11/2025 at 4:01 م

    … [Trackback]

    […] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 08/16/2025 at 5:52 ص

    … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 08/27/2025 at 7:54 م

    … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • 09/03/2025 at 11:14 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/08/لإماتة-الشرّ،-لا-تفعله/ […]

Comments are closed.