بات العنف، بشتى أنواعه (اللفظي والجسدي والنفسي والجنسي)، ملاحظا في المجتمعات، ويمارس ضد جميع أفراد المجتمع، سيما النساء والأطفال، بين أفراد الأسرة الواحدة وفي العمل والجامعات والمدارس والدوائر الحكومية و المنظمات والمؤسسات وخلال المظاهرات. فمجتمعاتنا يطغى عليها روح السيطرة والتسلط وإلغاء الآخر، وتسود فيها فكرة الإقصاء والتحجيم، مما يعزّز روح الانتقام والكيدية، كما يؤدي إلى التملّص من تعاليم الشرائع والقوانين والمبادئ الإنسانية والأخلاقية.
لقد أصبح التعصب والكراهية والإرهاب من سمات هذا العصر، وهو ما يعرّض حقوق الإنسان وكرامته للانتهاك بشكل مستمر, لذا كان لابد من زرع مفهوم قديم جديد بدون إراقة دماء كما فعل غاندي، وانطلاقاً من دليله الذي قدّمه على قوة اللاعنف في تحرير الهند من “السيطرة الاستعمارية” حتى لجوء مارتن لوثر إلى اللاعنف عند تحرير السود.
أصبح اللاعنف، كمفهوم، يشكل الأساس النظري لمظاهر قوة الشعب، مجالا ذو أهمية كبيرة للطلاب والباحثين وصناع السياسة والعاملين في العلاقات الدولية والتغيير الاجتماعي، ويعرف أيضاً (بالمقاومة اللاعنفية) أي رفض استخدام العنف الجسدي والبطش والقوة لتحقيق تغيير أو تحسين وضع اجتماعي أو سياسي أو تغيير على السلوك الإنساني، لكنه لا يعني البتة التهرب من المسؤولية أو تجنب الصراع وتجاهله، أو التوقف عن إحداث التغيير نحو الأفضل، بل استخدام وسائل وقدرات سلمية لأخذ الحقوق ونشر العدالة الاجتماعية، مما يؤدي إلى نشر حالة من السلام المستدام دون إراقة الدماء.
من المفاجئ، عند مراقبة مجتمعاتنا عن كثب، نكتشف أن الناس قد أدركوا قيمة اللاعنف، لكن قلة منهم بإمكانه إدراك آليات اللاعنف وطرق تطبيقه، هنا يكمن السؤال، كيف يمكننا استخدام اللاعنف حتى يصبح سمة من سمات شخصياتنا، ومن ثم يتحول إلى ثقافة عامة وقانون؟
يمكن أن نبدأ أولا بالتربية داخل الأسرة
عندما نتحدث عن اللاعنف في التربية، علينا أن ندرك أن تصرفات الطفل هي مرآة لسلوكنا كبالغين، فالبالغين لديهم معتقدات عن مفهوم التربية والأطفال، وبمقدار ما لدى هؤلاء البالغين من تجارب وخبرات، يتحدد ويتكوّن نمط السلوك لدى الأطفال؛ حين تكون تلك المعتقدات إيجابية، سيكون السلوك عند الشخص البالغ إيجابي أيضا، وبالتالي تكون ردة فعل الطفل إيجابية، وبالعكس.
انطلاقا من الواقع الذي نعيشه، أغلب الأسر من اللحظة الأولى التي تقرر فيها، الأم والأب، وأحياناً الجد أو الجدة، الأخوات أو الجيران! أن يكون لديهم طفل، غالبا ما يكون هذا المشروع مقررا من دون تخطيط، وهذا يؤثر على تربية الطفل مستقبلا.
نقص الكفاءة والمهارة والثقافة والتأهيل لدى البالغين يؤدي في النهاية إلى سوء فهم الطفل واحتياجاته، باعتباره إنسانا له خصوصيته وشخصيته المستقلة وهواياته وأهواءه، لذا يلتجئ الوالدين للتعامل مع طفلهم إلى العنف النفسي والجسدي، أو أي شكل آخر. في النتيجة نكون أمام طفل ذو ميول عدوانية، وإنسان يتعامل ويُعامِل بعنف وقسوة في المستقبل.
الممارسات الخاطئة التي تؤدي إلى تكوين طفل عنيف وعدواني
علماء النفس يعرّفون سلوك الطفل العدواني بأنه “مجموعة من التصرفات السلبية التي تصدر عن الطفل تجاه الآخرين، وتتسم هذه التصرفات بالعنف سواء كان عنفا بدنيا أو لغويا”
إن السلوك البشري ما هو في الحقيقة إلا نتيجة لسبب أو عدة أسباب، وحين تناول علماء النفس ظاهرة عنف الأطفال بالبحث، توصلوا إلى مجموعة من الأسباب التي تؤدي لتلك التغيرات السلوكية، والتي يعد تفاديها أو إصلاحها أول وأهم خطوات تقويم السلوك.
- البيئة والتربية الخاطئة: الإنسان يعد ابنا لبيئته، وبالتالي قد تكون البيئة سببا في عدوانية الأطفال إذا غابت عنهم رقابة الآباء، فوضع الطفل مع رفقاء يتسم سلوكهم بالعنف في المدرسة أو الأندية، سيدفعه إلى مجاراتهم في أفعالهم وسلوكهم، إما بهدف ألا يكون شاذا عنهم ومحط سخريتهم، أو لقناعة الطفل أن ذلك هو الصواب، وفي كلتا الحالتين تصبح العدوانية -مع الوقت- جزءا من التكوين النفسي للطفل.
أما بالنسبة لما يجري داخل الأسرة الواحدة نجد بعض الآباء يعاقبون أطفالهم على السلوكيات الخاطئة، فالخطأ سمة بشرية وبالنسبة للأطفال فهو ضرورة للتعلّم واكتساب الخبرات، ولكن الخطأ الأكبر لا يكون من الطفل إنما يصدر عن الكبار، متمثلاً في رد فعلهم المبالغ فيها تجاه أخطاء الأطفال السلوكية، فعقاب الأطفال ما هو إلا أداة لتقويم وتعديل سلوكياتهم السلبية، لكن بعض الآباء يفرطون في عقاب الأبناء، وكأن العقاب لديهم غاية لا وسيلة! وأسوأ طرق العقاب هي نبذ الطفل وخلق إحساس لديه أنه غير مرغوب فيه، ففي هذه الحالة يسارع الطفل إلى الثأر لكرامته في هيئة سلوك عدواني، وإن لم يتمكن من تفريغ غضبه المختزن بداخله تجاه الأبوين رهبة منهم، فإنه سيفرغه تجاه الآخرين ممن يشعر بدونيتهم أمامه كالأخوة وزملاء الدراسة.
من جهة أخرى نجد، رغم دعوة الأديان والقيم على تعليم الأبناء العفو والتسامح، نلاحظ أن أغلب الآباء يرسّخون داخل نفوس أبنائهم مبدأ “العين بالعين والسن بالسن”، وجهل الطفل بالتفريق بين مفهومي العدل والانتقام، يحيله إلى أسلوب العدوانية والعنف لأتفه الأسباب.
وسائل الإعلام وأثرها على السلوك العدواني ونشر ثقافة العنف في المجتمع
في ظل العالم المفتوح الخارج عن السيطرة الذي نعيشه اليوم، لابد التحذير من وسائل الإعلام والاتصال المختلفة، خاصة التلفزيون، فالعديد من القنوات تعرض أفلام الأكشن والرعب، فضلا عن الألعاب الرياضية الخطرة أو العنيفة، وكذلك الرسوم المتحركة التي تشجع على العنف، إذ أن الاطفال والمراهقين يميلون إلى تقمّص شخصيات هذه الأفلام والرسوم، بالتالي تؤثر على عقولهم. هذا ما أكدته العديد من الدراسات بأن هناك ارتباط إيجابي وقوي بين مشاهدة البرامج التلفزيونية العنيفة والسلوك العدواني.
عادة ما يزداد معدل ارتكاب جرائم القتل بعد مشاهدة مباراة عنيفة في الملاكمة مثلا، كما إن مشاهدة الأفلام الإباحية العنيفة قد تؤدى إلى زيادة السلوك العدواني للرجل نحو المرأة، فضلا على الأعمال الإرهابية والتفجيرات، ورؤية الأيادي والأرجل المبتورة في الشارع أو التلفزيون.
استطاعت وسائل الإعلام أن تشكل لدى غالبية المجتمعات ثقافة (تلفزيونية) خاصة، وتنشئ جيلا (تلفزيونيا) خاصا. الناس على اختلاف توجهاتهم وثقافاتهم بدأوا ينظرون إلى هذه الوسائل كمشكلة حضارية جديدة ذات آثار سلبية معينة، ويكاد يجتمع الرأي على أننا نواجه اليوم حملة إعلامية شرسة لما تقدمه وسائل الإعلام من مواد تحتوي على مشاهد الرعب والعنف والجريمة والساديّة والعدوانية، كذلك الرسوم المتحركة التي تشجع على العنف وسفك الدماء.
كيف نعالج السلوك العدواني
لابد أن نزرع في نفوس أطفالنا ثقافة التسامح والمحبة ورفض العنف والعدوان كوسيلة، واستخدام الحوار والنقاش وإقناع الآخر بالحجة والدليل للحصول على المقصود.
عندما نبحث عن طرق وأساليب التربية السليمة نجدها تركّز دوما على دور الوالدين في الدرجة الأولى، لذا لابد من مخاطبتهما أولا.
– عليهما علاج الأخطاء لدى أبنائهم بأسلوب هادئ، دون نبذ أو توبيخ أو عقاب بدني أو نفسي، حتى لا يجنح الطفل ويزداد عنادا أو غضبا وعدوانية وتدميرا، فقد يظهر الطفل طاعته خوفا من العقاب، إلا أنه يأتي بالسلوك غير المرغوب فيه حينما تتاح له الفرصة، ويظل بذلك متطرفا في انفعالاته.
– ضرورة الاعتدال في تنشئة الطفل، فعلى الآباء والمربين عدم اللجوء إلى العدوانية والغضب الشديدين عندما يخطئ الطفل، بل لابد من التحكم في هذا الغضب وكبحه قدر الإمكان، ذلك أن الطفل يقلّد والديه والكبار من حوله، إذ أن الكثير من الآباء يغضبون ويثورون لأسباب بسيطة في الحياة اليومية مما يؤدي إلى نقل هذا السلوك إلى الأبناء.
– من حق الطفل الشعور بالراحة النفسية والجو الآمن في المنزل والمدرسة، حتى يعكس سعادته وأمنه على الآخرين من خلال سلوكه معهم. كما أن توفير علاقات قوامها المحبة والمساواة والتسامح والتعاون في جو أسري آمن من شأنه أن يبعد الطفل عن العدوانية، ويقلل منه في حالة وجوده, فالشعور بعدم الأمان والخوف والإحباط يمكن أن يؤدي إلى العدوانية والانحراف والجريمة.
– تعزيز السلوك المرغوب فيه، لابد من إظهار الرضا وامتداح الطفل في كل مرة يقوم بها اللعب مع الأطفال الآخرين دون أن يظهر عنده العدوانية أو المشاجرة معهم. ولا مانع من أن نمزج المديح مع المكافأة المادية إذا تكرر سلوكه غير العدواني مع الآخرين.
كل ما سبق يظهر لنا دور التربية والبيئة على تربية أو صناعة إنسان سليم نفسيا، بعيد عن العدوانية والعنف، فكل طفل هو نواة لإنسان في هذا المجتمع الكبير، وعندما نقوم بتنشئة طفل سليم معافى من الحقد والكراهية نكون قد هيأنا لبناء مجتمع قائم على الحب والاحترام.
الإنسان الذي ينمو في بيئة إيجابية مدعومة بالحب يمكنه محبة غيره، والذي يمتلك السعادة بإمكانه إسعاد غيره، لذا من واجب الجميع تحمّل المسؤولية الملقاة على عاتقة، فهي مسؤولية مجتمعية وإنسانية وليست أسرية فحسب.
29 replies on “كيف نستبدل العنف باللاعنف؟”
… [Trackback]
[…] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 65143 more Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 68644 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] There you can find 37871 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2018/09/كيف-نستبدل-العنف/ […]
Comments are closed.