«ظهرت طائرتان حربيتان وهما تحلّقان فوق سماء المدينة، بعد دقائق وعلى بُعدِ أمتارٍ قليلة من منزلنا، سقطت أول قذيفةٍ على مركز اللغة الكردية عند حدود الرابعة عصراً، عمّ الصراخ والفوضى في عموم الحي، هرعت طفلتي كالمجنونة إلى الشارع، ركضتُ صوبها وأغلقت باب البيت ثم أقفلته بالمفتاح المحفوظ في جيبي».

تقول “ليلى محمد” السيدة الثلاثينية النازحة إلى مدينة قامشلو من مدينتها سري كانييه، بعد هجوم الجيش التركي ومواليه من فصائل المعارضة السورية المسلحة في التاسع من اكتوبر تشرين الأول الماضي.

«كانت ابنتي الصغيرة “روجين” نائمة عندما كنت جالسةً خارج المنزل على الرصيف المُجاور مع زوجي وابنتي “روكن” نتبادل الحديث مع الجيران، عما ينتظر مدينتنا بعد التهديد التركي، كان  الحدث الوحيد الذي يشغل بالنا حينها في ذلك اليوم الأسود» تضيف السيدة الثلاثينية.

الهروب

«على عجالة، صعدتُ وزوجي وطفلتَي برفقة خمس عائلاتٍ أُخَر، سيارة شحن البضائع العائدة لجارنا “مصطفى” الذي عَبَرَ بنا طرقات الموت في المدينة والقذائف تسقط بعشوائية  في كل مكان، فيما حجبت سُحب الدخان ملامح سري كانييه، وضاعت صرخات المدنيين واستغاثات الأطفال الممزوجة بهدير الطائرات التي لم تهدأ وهي تنفث الخوف، الرعب والموت في كل مكان، وخلف بلّور نافذة السيارة، كنت أراقب متسمّرة ومذهولة قوافل المدنيين الهاربين للنجاة بأرواحهم، المشهد كان كابوساً لا يوصف».

وتُتابع “ليلى” مُدرّسة اللغة الكردية، سرد فصلٍ من فصول نزوحها للمرة الثانية من مسقط رأسها سري كانييه: «عمّت الفوضى المكان والفارّون سيراً على الأقدام كانت أعدادهم بالآلاف، لم أتخيّل يوماً أن تتحوّل مشاهد أفلام الحروب التي كنت أتابعها عبر شاشات التلفزيون؛ إلى واقعٍ أعيشه، وأمام عيني أشاهد مدينتي تُدَكّ بالموت دون رحمة، كادت روحي تنسلخ عن جسدي حينها وأنا أغادر المدينة التي باتت جحيماً، أيقنتُ لحظتها أنني لن أعود إليها ثانيةً».

في الطريق إلى قامشلو 

عند مفترق الطرقات، توجّهت سيارات الفارين صوب مدينة الحسكة وآخرون قصدوا مدينة قامشلو، بينما المئات قادتهم أقدامهم إلى البراري والحقول، أملاً بتوقّف آلة الموت والعودة لبيوتهم.

في الطريق التي سلكتها السيارة التي استقلتها  “ليلى” وزوجها مع طفلتيهما برفقة العوائل الخمس صوب مدينة قامشلو، سقطت قذيفة هاون على مقربةٍ منهم، وكادت أن تنقلب بهم السيارة، لكن كما تقول السيدة الثلاثينة: «ربك سترها معنا، والسرعة أنقذت حياتنا من القذيفة الثانية أيضاً، ثم خيّم الظلام  ونحن في الطريق، حتى وصولنا إلى قامشلو التي لم ترحمها آلة الحرب التركية بقذائف هاون والقصف المدفعي، لكنها كانت أكثر أماناً من سري كانييه».

نزوحٌ آخر يقسو على أبناء سري كانييه 

لم تكن المرة الأولى التي تنزح فيها عائلة مُدرّسة اللغة الكردية من سري كانييه؛ بل سبق هذا النزوح نزوحٌ آخر عام  2012، عندما هاجمت فصائلٌ إسلامية مدعومة من تركيا المدينة، لكن “ليلى” عادت بعد عشرة أيام إلى بيتها بعد أن حررت وحدات حماية الشعب المنطقة من الفصائل المتشددة.

هذا النزوح يبدو أقسى من السابق على جميع أبناء سري كانييه النازحين، فالجرائم التي ترتكبها فصائل المعارضة السورية بدعمٍ من الجيش التركي بحق المدنيين؛ تفوق ممارسات تلك الفصائل عام 2012، وحالات النهب والسرقة التي طالت ممتلكات المدنيين، تكشف حجم الكارثة التي حلّت بالمدينة وأهلها على يد هؤلاء المسلحين. 

اليوم، كل عائلةٍ نازحة من سري كانييه، باتت تتشارك مع مثيلاتها من العوائل النازحة المسكن، المأكل والمشرب، ومن بينها عائلة “ليلى” التي اضطرّت للسكن في منزلٍ طيني بقامشلو، وتشاركه مع عائلةٍ أخرى، بعد أن حصلوا على أثاثٍ متواضع من بعض الخيّرين من أبناء المدينة. 

تصوير: ديار معو
تصوير: ديار معو

مستقبلٌ مجهول ولا شيء معلوم يلوّح في الأفق القريب

القلق لا يفارق “ليلى” فهي تُفكّر مُسبقاً بمسألة البيت الذي اتّخذوه مسكناً مؤقّتاً والذي قد يُطالب به صاحبه في أيّة لحظة،  وحينها كيف سيؤمّن زوجها تكاليف معيشة العائلة المؤلّفة من خمسة أشخاص، «فقدنا بيتنا ومصادر رزقنا، وابنتي تدرس الهندسة في جامعة دمشق، لا أدري كيف سنوفّر مصاريف دراستها، ولو فكّرنا بالهجرة إلى كردستان العراق، فعبور الحدود مكلفٌ جداً، قد نحتاج إلى أكثر من ألف دولار»، تقول “ليلى”.

وعلى مقربةٍ منها، تجلس “سعاد” وهي شقيقة زوج “ليلى” التي تسرد لمجلة (شار) تفاصيل ما أسمته بـ «اليوم المشؤوم» تقول: «كان الناس قلقين خلال الأيام التي سبقت الحرب، فبعضهم كان يطمئننا بأن الرئيس التركي يكذب كعادته وهو يهدّد في كل مرة بأنه سيحتل كري سبي وسري كانييه ثم يتراجع، لكنه هذه المرة كان جاداً ورمى بكرة النار التي التهمت أمن وأمان مدينتنا وجرّدنا من بيوتنا وها نحن نازحون ومُتخوّفون من مستقبلٍ مجهول ينتظرنا».

تُرتّب “سعاد” وشاحها وتُدخّن سيجارة ثم تتابع: «كانت الساعة تقترب من الثالثة حين جلستُ وعائلتي لتناول وجبة الغداء، بينما خرجت ابنتي لتلعب في الحي، سمعنا هدير الطائرات في منطقة المساكن، أمسكتُ وزوجي حينها أيادي أطفالنا الثلاثة وغادرنا بيتنا بعد أن أقفلت أبواب الغُرف وباب الشقة بشكلٍ مُحكم، ثم ركبنا السيارة خاصتنا وتوجّهنا إلى قامشلو».

وتضيف: «سألتني ابنتي “جالا” ذات السبع سنوات وهي تسحب المفاتيح من بين يديّ عما يحصل وراء بلور نوافذ السيارة وهي تراقب الناس يهربون والشوارع مكتظة بمئات السيارات وكانت تبحث في عيوني عن الإجابة قبل أن تصرخ وتجهش بالبكاء: «هل سنموت؟ هل سيقتلنا المسلحون؟».

«ارتفعت صرخات الأهالي المذعورين مع اشتداد عنف ووتيرة القصف المدفعي والجوي، كان الخوف يملأ وجوه الهاربين، فرائحة الموت تفوح من شوارع وأحياء مدينتنا ونحن نعيش معها لحظاتها الأخيرة، بَدَت لنا سري كانييه وكأنها تُحتَضر، فهي تعيش سكرة الموت تركناها مُرغمين ولا نعلم ما الذي تُخبّئه لنا قادمات الأيام» تقول “ليلى”.

تجربة النزوح القسري حرمت “روجين” و”جالا” ابنتَي “ليلى” و”سعاد” من إتمام تعليمهما، كذلك من أصدقاءٍ كن يلعبن معهم، فكثيراً ما تتذكران تفاصيل حياتهما في سري كانييه وهما تجلسان اليوم داخل الحديقة الخلفية للبيت الذي يسكناه في قامشلو ، فتقول “جالا” بعباراتها البسيطة: «اشتقت لمدرستي وإلى صديقاتي في المدرسة والحي، اشتقت لمنزلي، اشتقت لكل شيءٍ في مدينتي، لقد اختلف عليّ كل شيء».

مأساة الأُسر النازحة، تعكس مدى فداحة الحرب على السكان المحليين، وفقدانهم الأمل بالعودة إلى مدينتهم، فيما يعجز مصطلح “النازحون” الذي يُطلق عليهم، عن رسم أدنى صورةٍ للوقائع المروّعة التي يواجهها هؤلاء في مناطق شمال شرق سوريا.

29 replies on “نازحون يحلمون بالعودةِ من بوابةِ الشّتات”

  • 06/13/2023 at 2:14 م

    … [Trackback]

    […] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 06/22/2023 at 7:38 م

    … [Trackback]

    […] Here you will find 84986 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • … [Trackback]

    […] There you can find 31091 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 08/29/2023 at 2:27 م

    … [Trackback]

    […] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 01/20/2025 at 12:57 م

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 03/03/2025 at 6:14 ص

    … [Trackback]

    […] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 03/03/2025 at 9:58 ص

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 03/13/2025 at 6:14 م

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 03/15/2025 at 7:39 م

    … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 03/19/2025 at 2:35 م

    … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 03/27/2025 at 7:08 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • … [Trackback]

    […] Here you will find 93349 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • … [Trackback]

    […] Here you can find 87122 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 05/30/2025 at 3:14 م

    … [Trackback]

    […] Here you will find 92064 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 06/25/2025 at 1:58 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 06/28/2025 at 3:44 ص

    … [Trackback]

    […] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 07/12/2025 at 4:41 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 07/15/2025 at 4:01 ص

    … [Trackback]

    […] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 07/16/2025 at 1:26 ص

    … [Trackback]

    […] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 07/18/2025 at 7:07 م

    … [Trackback]

    […] Read More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 08/19/2025 at 6:50 م

    … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • 08/31/2025 at 3:36 ص

    … [Trackback]

    […] There you can find 41161 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/pclar234234234/ […]

Comments are closed.