منذ التاسع من تشرين الأول ٢٠١٩، ومدينة سري كانييه التي عُرِفت بمدينة التعددية والعيش المشترك، تفتقد قيمة التنوع والتعدد.

فـ «عروس الجزيرة السورية» و«مدينة الخير»، فقدت ألوانها ولم تعد كذلك في ظل العدوان التركي وفصائل ما تسمى بـ (الجيش الوطني السوري) الجهتان اللتان تعملان بقوة على طمس هوية المدينة وتشريد سكانها.

مع بداية القصف الجوي التركي على المدينة، وهجوم فصائل المعارضة، تعرّض أهلها لتهجيرٍ قسري، بعد أن دُمِّرت عشرات المنازل والمرافق الخدمية، وأُفرِغت المدينة أهلها، قبل أن تستولي الفصائل المدعومة تركياً، على معظم الممتلكات وتنهب الأرزاق ومحتويات البيوت والمحال التجارية. 

 سري كانييه ذات التنوع الإثني من الكرد، العرب، السريان، الكلدآشوريين، المسلمين، الشيشان، التركمان، الشركس والإيزيديين، عدا عن سوريين لجؤوا  إليها من مدنٍ سوريّة أخرى، باتت اليوم فريسة أطماعٍ توسّعية لتركيا يؤازرها في مشروعها؛ سوريون مستعدون لنحر خصوصية المناطق المحتلة وتنوّعها خدمةً لأسيادهم في الطرف الآخر من الحدود. 

تصوير: ديار معو
تصوير: ديار معو

كانت هذه المدينة الصغيرة الوادعة ذات المحيط الزراعي الخصب، مكاناً يلوذ به الباحثون عن العمل خلال سنين مضت، يُرحب أهلها بكلٍ وافدٍ يطرق بابها، فَمَنْ يعيش فيها ومن يعرف عنها، أو زارها ومرّ بها، يُدرك القيمة الفعلية لها. فهي التي عُرِفت بينابيعها وآبارها الارتوازية وقمحها وقطنها، وأهم من كل ذلك؛ تنوّعها السكاني والإثني.

في عام 2012 تحوّلت هذه المدينة الصغيرة، لمركز استقطابٍ سياسي وعسكري وإعلامي، إثر الهجوم الذي شنته فصائل المعارضة السورية بالتحالف مع جبهة النُّصرة، تحت ذريعة تحريرها من النظام، في حين لم تكن في المدينة سوى مفرزتين أمنيتين فعلياً، وتبين حينها، أن هنالك أهدافاً أبعد من مسألة طرد النظام، وهو ضرب التماسك المجتمعي، واستهداف الكرد وتفريغ المنطقة بدعمٍ لوجستي من جانب تركيا. 

حاولت تلك الفصائل كثيراً أن تخلق نزاعات داخل المدينة، عن طريق استمالة بعض الأشخاص، لكنها لم تنجح في تأسيس قاعدةٍ شعبيةٍ لها، بالنظر لما مارست من سرقةٍ ونهبٍ وإهانةٍ لأبناء المكونات ومعتقداتهم ورموزهم، وكان ذلك من أسباب نجاح  مقاتلي وحدات حماية الشعب ولجان أهلية في طردهم من المنطقة.

اليوم وبعد سبع سنوات من إفشال المحاولة الأولى لضرب التنوع السكاني في المدينة وريفها، عادت الفصائل ذاتها وللهدف ذاته، وبالدعم التركي ذاته، ولكن هذه المرة مرتديةً لباس الوطنية المُزيّفة.

منذ التاسع من اكتوبر تشرين الأول ٢٠١٩، تعيش سري كانييه حالة حربٍ وتطهيرٍ عرقي بكل تفاصيله، إذ يسود المدينة وعيدٌ بتطهيره أهلها وتهجير ناسها، والاستيلاء على منازلهم ومحالهم التجارية، ثم إكمال الخطة المُعتَمدة بجلب عناصر سوريين وآخرين غير سوريين لإسكانها بدلاً عن السكان الأصليين.

في السابق، كان الكردي هو المستهدف الوحيد، اليوم المستهدفون هم الكرد، العرب، المسيحيين، التركمان، الشيشان والإيزيديين، فالقادمون الدخلاء، ليست لأفعالهم أيّ اعتباراتٍ لحالة المدينة وطابعها؛ بل مهمتهم المسندة إليهم من تركيا، واضحة  وهي خلق الفوضى، والعمل بمنهجية لطمس ملامح المدينة وإباحتها لعناصر لا علاقة لهم بتاريخها.

قبل الهجوم بعدة أشهر، بدأت تركيا تهدد المناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية شمال وشرق سوريا، تحت ذريعة محاربة “الإرهاب”، وتصاعدت تلك التهديدات بين الفينة والأخرى، مترافقة مع العمل على تحريض اللاجئين من المكونين العربي والتركماني من أبناء مناطق الجزيرة الموجودين في تركيا وتجييشهم بحقدٍ قوميٍ وديني.  

تصوير: ديار معو
تصوير: ديار معو

كان لهذا التهديد، تأثيراً كبيراً على الأهالي، وعلى الواقع المعيشي والاقتصادي، نفّذت تركيا تهديدها واجتاحت المدينة عبر قصفها جواً، ثم حشدت القوات على الحدود، لتُسيطر فيما بعد فصائل المعارضة السورية المسلحة، ذات الطابع المتشدد والمتطرف الأقرب إلى القاعدة وتنظيم داعش، على المدينة، لتبدأ عمليات التهجير القسري ومنع عودة الأهالي.

عمليةٌ عسكرية باتت بسببها سري كانييه، خاليةً من سكانها وأهلها، بعد أن استولت عناصر المعارضة على أرزاق المدنيين دون مراعاةٍ لحرمة الملكيات الخاصة، عدا عن اختطاف بعض المدنيين الذين لم تُسعفهم اللحظات من الهروب خارج المدينة، والمساومة على حياتهم مقابل آلاف الدولارات.

 الهدف الرئيسي من الهجمة التركية كان واضحاً منذ البداية،  وهو إجراء تغييرٍ ديمغرافي للبنية السكانية للمدينة، من خلال تهجير سكانها الأصليين وتوطين سوريين موالين للهيمنة التركية، عبر ممارساتٍ غير إنسانية من جانب فصائل مسلحة ليس لديها احترامٌ للقوانين الدولية ولا التزامٌ بمدونات السلوك، وهو ما بدا جلياً وواضحاً من أفعالها التي وثّقتها بنفسها عبر مقاطع فيديو تُظهر عمليات السرقة وتنفيذ إعداماتٍ ميدانية وتصفياتٍ عشوائية، فضلاً عن تجهيز قوائم بأسماء مطلوبين، بذريعة التعامل مع الإدارة الذاتية (أو مع الكرد كما يصفون).

خشية أهالي سري كانييه مما حدث ويحدث في عفرين، أجبرتهم على الخروج منها دون التفكير بالعودة، حتى لا يمنحوا الشرعية لتلكم الفصائل المتشددة، إضافة للخوف من أفعال الفصائل المشينة والخوف من الاختطاف وطلب الفدية.

الصورة القاتمة في سري كانييه، مجحفة بحق مدينةٍ عاش سكانها في هدوءٍ وسكينة، وعُرِفت بالتنوع، والتماسك المجتمعي. 

فاليوم، المدينة أمام تهديدٍ للبنية السكانية المتلاحمة على مدار عقود، فالطابع التنوعي الذي كانت تشتهر به، والتعددية التي كانت تخلق سمة خاصة بها، والتي تمثل صورة سوريا ككل، باتت اليوم معرّضة للخطر وفقدانها ستكون خسارةً لقيم التنوع والعيش المشترك، وعلى شكلها الحالي في ظلّ الاحتلال؛ ستُجسّد الصيغة التركية المضادة لإحلال السلام في سوريا ككل، وفي شمال شرق سوريا على وجه الخصوص.


24 replies on “سري كانييه تفقد ألوانها بعد الاحتلال”

  • 06/19/2023 at 11:17 ص

    … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 07/27/2023 at 7:19 م

    … [Trackback]

    […] Here you will find 36507 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 08/02/2023 at 3:56 م

    … [Trackback]

    […] Here you will find 75819 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 01/24/2025 at 12:05 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 01/27/2025 at 5:33 ص

    … [Trackback]

    […] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 02/05/2025 at 11:31 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 02/26/2025 at 7:49 ص

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 04/02/2025 at 12:37 ص

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 04/20/2025 at 4:06 ص

    … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 04/29/2025 at 2:19 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 06/01/2025 at 6:56 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 08/03/2025 at 8:55 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 08/03/2025 at 12:13 م

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 08/09/2025 at 3:02 ص

    … [Trackback]

    […] Here you can find 73603 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 08/10/2025 at 4:15 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 08/26/2025 at 4:29 ص

    … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 09/12/2025 at 2:15 ص

    … [Trackback]

    […] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

  • 09/22/2025 at 3:05 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/سري-كانييه-تفقد-ألوانها-بعد-الاحتلال/ […]

Comments are closed.