تلعثمت شفتاه حين أراد الحديث، هل سنعود لمنازلنا؟ هل هناك أخبارٌ أو معلوماتٌ جديدة؟ قالها العم “حسين” الرجل السبعيني الذي نزح مع أبنائه الثلاثة وأحفاده الصغار من مدينة سري كانييه تحت نيران المدفعية والطيران التركي.
«لا نريد مساعدات، نريد العودة إلى مدينتنا» يقول بحزنٍ عميق وهو يلوّح بيده في إشارة رفضٍ بقبول المساعدة حين تقدّمت إحدى المتطوعات لتمنحه سلّة غذائية، وأنين كلماته تحز القلب، فكيف لشخصٍ مسِنٍّ أن يتقبّل فكرة أنّه خسِر كل شيء وصار نازحاً في بلده، لا يملك سوى الهواء.
قصص النزوح والنازحين وإن اختلفت ملامحها؛ إلا أن صورها مشربة بذات المرارة، هي خشيةٌ من طول المكوث، فيتبدّد أمامهم حلم العودة إلى مسقط رأسهم.
“مريم” أمٌّ لثلاث فتيات، أكبرهن في العاشرة من العمر، تسرد لمجلة (شار) تفاصيل رحلة نزوحها مع عائلتها تقول: «اعتدنا أصوات القذائف وهي تسقط على أطراف المدينة بين حينٍ وآخر، لكن في ذلك اليوم حيث كانت الشمس تميل نحو الغروب، ازدادت كثافة أصواتها التي بدأت تهزّ المدينة، عَلِمنا بعدها، أن الطيران التركي بدأ بقصف الأحياء السكنية».
الخوف والذعر لدى الأهالي، كان مترافقاً مع فوضى في الطرقات، حيث تحاول كل عائلةٍ جمع بعض أمتعتها للخروج سريعاً من المدينة، لكن كل ذلك الضجيج والخوف، لم يخلقا لدى “مريم” أيّة رغبةٍ في مغادرة منزلها.
«سارَعَ إليّ بعض أهالي الحي وطلبوا مني الخروج، لكنني رفضت وقلت سأنتظر زوجي حتى يعود فهو يحارب العدو في المنطقة الصناعية اتصلتُ به أكثر من مرة، لكنه رفض العودة وطلب مني الخروج مع الأطفال، وأمام إصرار الجيران الذي وصل بهم الأمر بتهديدي بأخذ الأطفال دوني إذا عاندتهم أكثر، رضختُ لرغبتهم» تقول “مريم”.
و ما أن ابتعدت “مريم” وأطفالها برفقة جيرانها عن المدينة، حتى تذكّرت والدتها المُقْعَدة التي لاتزال موجودةً في المدينة، ولأنه لم يكن من السهولة عودة السيارة التي كانت تستقلهم جميعاً بسبب القصف، قرّرت “مريم” أن تعود بمفردها وتقطع مسافة 2 كلم مشياً على الأقدام.
«وصلتُ بصعوبةٍ كبيرة إلى منزل والدتي وهممت بإخراجها بمساعدة بعض الأهالي، ركبنا سوياً إحدى السيارات، إلى أن اجتمعت بالجيران الذين خرجنا معهم، ثم تابعت الحافلة المسير بنا، حتى وصلنا إلى مدينة الحسكة لجئنا إلى إحدى الحدائق وبقينا فيها حتى صباح اليوم التالي» تضيف “مريم”.
رحلتهم في الابتعاد عن خطر قذائف العدوان التركي ربما انتهت، ولكن لا تعلم ماذا ينتظر عائلتها وقد بدأت رحلة نزوحٍ جديدة.
تتابع: «قصدنا أقارب لنا في مدينة القامشلي، مكثنا لديهم عدة أيام ولكن لم يكن بمقدورنا البقاء في ضيافتهم أكثر، فقررت التوجه مع عائلتي إلى هذه المدرسة حتى لا أكون عبئاً على أحد».
وتُنهي مريم حديثها بسؤالٍ وهي تتنهّد «هل سنعود؟ أم سيطول مكوثنا هنا».
أما “لمياء” وهي أمٌ لسبعةِ أطفال، تمكنوا أيضاً بصعوبة بالغة من الخروج من مدينة سري كانييه حين صار المدنيون هدفاً لفوهات مدافع العدوان التركي وقذائف طيرانه الحربي تقول: «لعدم توفُّر وسيلة نقل مناسبة لدينا، لم يكن أمامنا أي خيار، فاستخدم زوجي الدراجة النارية لإخراج الأطفال وإبعادهم عن المدينة، أما أنا وبعض الأهل والأقارب فقد خرجنا من المدينة مشياً على الأقدام، حتى تمكّنا- بعد جهدٍ كبير- من الوصول إلى محيط بلدة تل تمر التي تبعد عن المدينة مسافة 35 كيلو متراً».
ولجأت “لمياء” مع عائلتها وأقاربها إلى إحدى المدارس في البلدة والتي تحوّلت إلى مراكزٍ لإيواء النازحين، ولكن ما لبثوا أن غادروا المكان.
«بقينا في المركز ثلاثة أسابيع ولكن بعد أن اشتد القصف على محيط البلدة وأصيب الأطفال بالذعر، اضطرّرنا إلى النزوح مجدداً» تتابع الأم الخمسينية.
غيّرت العائلة وجهتها مرة أخرى، بحثاً عن مكانٍ أكثر أمناً، فكانت الوجهة هذه المرة مدينة القامشلي.
تقول “لمياء”: «الخوف على حياة الأطفال هو الذي دفعنا للخروج من البلدة والتوجه إلى مدينة القامشلي، لم يكن يهمّنا أي شيء آخر سوى سلامتهم».
ومع تطور الحديث معها عن تفاصيل رحلة النزوح، بدت ملامح الحزن الذي كانت تخفيه “لمياء” وراء ابتسامتها، تظهر شيئاً فشيئاً مخترقةً نبرة صوتها حين أتى الحديث على منزلها الصغير الذي بنوه حديثاً على أطراف المدينة وحرمان أطفالها من تعليمهم.
«ننتظر موعد نشرة الأخبار كل يوم بفارغ الصبر، علّها تحمل لنا خبراً مفرحاً ونعود إلى مدينتنا» تقول ذلك بيأس، بعد أن تردّد إلى مسامعها أخبار جديدة بشأن عودة النازحين إلى مدنهم وقراهم بداية ديسمبر كانون الأول المقبل.
«حتى لو دمروا منزلي، لا بأس من ذلك، فقط نريد العودة؛ وسنبني ما دمروه مجدداَ حجراً حجر».
قالت تلك الجملة المفعمة بالإصرار حيناً وباليأس حيناً آخر، قبل أن تنصرف لتلاعب ابنتها الصغيرة التي لم تتجاوز بعد أربعة أعوام، فاليأس لم يطرق بابها بعد، ولايزال الأمل يرافق حلمها في العودة إلى مدينتها التي اغتيلت بين ليلةٍ وضحاها.
18 replies on “نازحون فحسب.. أحلامهم في العودةِ تُراقص الرّيح”
… [Trackback]
[…] Here you will find 19558 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] There you can find 68683 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] Here you will find 61470 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 77845 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/12/نازحون-فحسب-أحلامهم-في-العودةِ-تُراقص/ […]
Comments are closed.