بينما ينظرُ “حمي سيدو” النّازحُ الإيزيدي، باتّجاه الشّارع الذي يمرُّ أمام مسكنه الجديد في قرية  “قزلجوخ” بريف مدينة عامودا والذي قدمته له أحد العوائل الإيزيدية المهاجِرة إلى أوروبا، يستذكر رحلة الفرار الثانية  لعائلته من “سري كانييه”، وفي هذه المرّة «بات أملُ العودة ضئيلاً» يقول وهو يحاول مَنْعَ نفسه من البكاء.

هو حال نازحي “سري كانييه” من الإيزيديين، الذين حَملوا القَليل من أمتعتهم، تاركين منازلهم بما تحتويها؛ خوفاً من ملاقاة مصيرٍ شبيهٍ بمصير  أقرانهم في شنكال وعفرين، بعد أن فرّوا من قراهم  ومدنهم، بسبب الحرب التي شنتها تركيا على المنطقة  قبل نحو عام حين باغتت السكان بقصفٍ جويٍ ومدفعي خلال عملية (نبع السلام) التي أطلقتها أنقرة على منطقتي سري كانييه وتل أبيض وأريافهما، لتهرع العوائل الإيزيدية كباقي أبناء المدينة وريفها، إلى البراري للنجاة بأرواحها.

بنبرةٍ مُتحسّرة، يرسم “سيدو” المُسنُّ السبعيني لمجلة (شار)، صورةً متشائمة للواقع الإيزيدي وخوفه من تكرار سيناريو شنكال وعفرين والذي كان بمثابة جرس إنذارٍ لهم، ودفعهم لترك كل ممتلكاتهم والهرب بعيداً عن آلة الموت، فجرفتهم موجة الفارين، إما باتجاه مخيمات النزوح في كردستان العراق أو لمراكز الإيواء في مدينة الحسكة، والمحظوظون منهم، حصلوا على منازل قدمها لهم أصحابها المُقيمين في أوروبا.

ويرى “حمي سيدو” أنهم اليوم «أقرب من أي وقتٍ مضى للانكسار والضياع بعد حملات الإبادة الثالثة والسبعين بحقهم واعتبارهم من قبل الفصائل الإسلامية المتشددة، كُفاراً بسبب دينهم وقوميتهم».

60 عائلة إيزيدية 

أحْصَت “ليلى إبراهيم” مسؤولة البيت الإيزيدي في مدينة الحسكة، 60 عائلة إيزيدية فرّت من مدينة سري كانييه، وقالت لـ (شار) «إنهم  نَقَلوا تلك العوائل من مخيمات النزوح ومراكز الإيواء إلى القرى الإيزيدية في ريف الحسكة وعامودا، ومنحت كل عائلة منزلاً يعود لمهاجرين إيزيديين مستقرين في أوروبا سمحوا لتلك العوائل النازحة المكوث في بيوتهم». 

مؤكّدةً أن «عدد العوائل التي كانت متبقّية في سري كانييه، هي 60 عائلة فقط، بعد أن كانت أعدادهم تُقدّر سابقاً بالآلاف» 

وفي ريف “سري كانييه”، كان الإيزيديون يقطنون قرى عديدة  شرق المدينة وجنوبها، منها “جان تمر” و”جافا” و”الأسدية” و”تل صخر” و”لزقة” و”الدردارة”، فضلاً عن مزارع عديدة تقع أغلبها غرب المدينة. 

وبدأت هجرة الإيزيديين في التسعينيات إلى ألمانيا، غير أن الهجرة الواسعة كانت عام 2012 مع هجوم فصائل “غرباء الشام” و”جبهة النصرة” وفصائل متشددة أخرى على “سري كانييه” وأريافها، واستُكمِل مخطط التهجير المُمنهج مع الهجوم التركي في اكتوبر تشرين الأول 2019  بمشاركة فصائل سوريّة متشددة، تُؤتمر بأمر الاستخبارات والجيش التُركيَين.

كابوسُ شنكال وعفرين 

لم تؤثّر الحرب  السورية كثيراً على سكان القرى الإيزيدية في “سري كانييه” وعفرين  كما حصل في شنكال، حتى جاء الهجوم التركي الذي شكّل خطراً كبيراً عليهم، ليقرر معظمهم الفرار باتجاه الحسكة وعامودا وتربه سبيه وكردستان العراق ومنها إلى أوروبا، بعد أن تركوا خلفهم ممتلكاتهم، لتصير غنائم حرب للفصائل المُسلّحة.

تقول مراكز ثقافية ومدنية إيزيدية، إن عدد الإيزيديين في عموم سوريا تجاوز 50 ألفاً في 2010، وهم يتوزعون بين الحسكة وعفرين، وبحسب “فاروق إسماعيل شهاب” رئيس المجلس الأعلى لإيزيديي سوريا، فإن  عدد الإيزيديين خلال السنوات الأولى من الحرب «تناقص إلى أقل من 20 ألفاً، بعد موجات الهجرة الحادة باتجاه أوروبا وتركيا والعراق».

ويُشير “شهاب” إلى أن  شرارة هجرات الإيزيديين من سوريا، اندلعت عقب فتك الإرهاب بأولادهم خطفاً وقتلاً، وقال لمجلة (شار): «لقي العديد من الإيزيديين حتفهم على يد جبهة النصرة التي كانت سبّاقةً في هذا الإطار، حين شنّت هجماتها الشرسة على قرانا، ومن أبرزها، الهجوم على قرية “الأسدية” جنوبي “سري كانييه” في شهر أغسطس آب 2013، وتبعه مسلحو داعش، ما دفع  بمعظم مَنْ بقي إلى الهجرة، عقب المجازر التي ارتكبها التنظيم بحق إيزيديي العراق في الثالث من أغسطس آب 2014، كما ارتكبت الفصائل السورية التي احتلت عفرين، جرائم حرب نال الإيزيديون قسطاً كبيراً منها، ما دفعهم إلى ترك منازلهم وحقولهم وممتلكاتهم وفرّوا إلى مناطق أكثر أمناً».

الحنينُ للوطن 

بعد الهجوم التركي على قريته في (جان تمر) والاستيلاء على منزله وحقول القطن التي تركها خلفه، هرباً من بطش الفصائل السورية المعارضة،  قرر “برهان جمو” حمل ذكرياته والانتقال للعيش في كردستان العراق، لكنه يشعر بالحنين إلى الديار والوطن الذي باتت العودة إليه، ضرباً من الخيال. «أرواحنا بقيت في القرية، وأجسادنا فقط هنا»، يقول “جمو” لمجلة (شار).  

فيما يتطلّع شقيقه “جندو” للسفر إلى أوروبا عبر تركيا في رحلات التهريب غير الشرعية والخطرة وركوب قوارب الموت التي حصدت أرواح الكثير من الإيزيديين في السنوات الأخيرة، يقول لـ (شار): «نحن أناسٌ مسالمين، لا طاقة لنا بالحرب وتبعاتها، كنا نعيش بسلام وسط جميع المكوّنات الأخرى، إلى أن دمّرت تركيا  والكتائب الإسلامية المتشددة نسيج حياتنا وبعثرتنا بعيداً عن بلدنا».

بعضُ الجيران شركاءٌ في الجريمة 

يتّهم كثيرٌ من الإيزيديين في “سري كانييه” مسلحين من أبناء القرى العربية المجاورة بمهاجمتهم والتواطؤ مع التنظيمات الإسلامية المتطرفة، كأحرار الشام  وجبهة النصرة وداعش، وآخرها مع الفصائل السورية الموالية لأنقرة والترويج بأن الإيزيديين كُفّار، ما اُعتبر ذريعة لقتلهم وتهجيرهم. 

يؤكّد “شمو” الذي رفض ذكر لقبه لمجلة (شار) والمنحدر من قرية “الأسدية”، أن قريباً له «يُدعى “علي مراد”، قُتِل على يد جيرانه الذين انضموا لجبهة النصرة، وأجبروه على اعتناق الإسلام وتحصيل ممتلكاته وشقيقه كفدية مقابل عتق أرواحهم، لكنهم استولوا على ما يملك وقطعوا رأسه ورأس شقيقه  بعد أسبوعٍ من احتجازهم». 

ولم تكن تلك الجريمة، الأولى من نوعها، بحسب “شمو” فقد تكرّرت حوادث الخطف والقتل بحق الإيزيديين آنذاك، وسيناريو تكرار المشهد، دفع بإيزيديي “سري كانييه” للهرب مع إطلاق الرصاصات الأولى إبّان الهجوم على المدينة. 

«ما حصل في عفرين وسري كانييه، لم يكن بقسوة ما حصل في شنكال بالعراق، لكن نتائجها من حيث تهديد الوجود الإيزيدي، لا تبدو أقل خطورة بعد هجرة أهالي قرى بأكملها، مثل موتسكو، وبرزان، وهيشري، وغيرها من قرى الحسكة وسري كانييه» يقول “شمو”.

نبشُ القبور وتدميرها

في منتصف شهر نيسان الماضي، تعرّضت مقبرة الإيزيديين الواقعة في قرية (جان تمر) 23 كم شرقي “سري كانييه”، للتخريب والسرقة على يد فصيل السلطان مراد. 

ويورد “أورهان كمال” ناشط وصحفي يعمل مراسلاً لموقع (إيزدينا) المتخصص بالشؤون الإيزيدية لمجلة (شار) أسباب نبش القبور، قائلاً: «يُكْرِم الإيزيديون والمسيحيون موتاهم بدفنهم مع حليّهم ومجوهراتهم من الذهب والفضة، وكون العديد من أبناء المنطقة انضموا للفصائل السورية التي غزت المدينة وريفها، تُدرك ذلك الأمر وعلى دراية بها، فكانت السباقة في نبش القبور وسرقة ما يعثرون عليه من ذهبٍ دُفِن مع الموتى».

إدانةٌ أمميّة

أدانت مفوضية الأمم المتحدة  في تقرير نشرته بعنوان (القوات السورية المدعومة من تركيا ارتكبت جرائم حرب في سوريا) انتهاكات الفصائل السورية المعارضة بحق مدنيي “سري كانييه”.

 وأكدت المفوضية في تقريرها، استيلاء المجموعات السورية المعارضة على ممتلكات المدنيين الكرد في “سري كانييه” وصادرتها  بعد فرار مالكيها خلال عملية (نبع السلام) التي  نفذتها تركيا وبمساندة “الجيش الوطني السوري” الموالي لها في تشرين الأول/ أكتوبر2019 وارتكبت انتهاكات بالجملة من ضمنها عمليات نهب منظمة وواسعة النطاق من خلال تعليم جدران المنازل بأسماء الألوية الفردية، وبيع المسروقات المنزلية المنهوبة في الأسواق المفتوحة. 

22 replies on “حَمَلوا ندوبَ المجازِر في حقائِب الشّتات ”

  • 06/20/2023 at 3:49 م

    … [Trackback]

    […] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • 09/05/2023 at 7:54 م

    … [Trackback]

    […] Read More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • 01/25/2025 at 11:01 م

    … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • 02/07/2025 at 6:48 ص

    … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • 02/20/2025 at 5:43 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • 02/26/2025 at 8:25 ص

    … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • 03/21/2025 at 10:37 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • 03/21/2025 at 6:32 م

    … [Trackback]

    […] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • 04/26/2025 at 8:17 ص

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • 05/08/2025 at 4:23 م

    … [Trackback]

    […] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • 05/19/2025 at 4:01 ص

    … [Trackback]

    […] There you can find 46311 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • 05/30/2025 at 1:13 م

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • 06/08/2025 at 11:28 م

    … [Trackback]

    […] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • 06/29/2025 at 5:56 ص

    … [Trackback]

    […] There you will find 21366 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • 08/11/2025 at 3:24 م

    … [Trackback]

    […] There you can find 72200 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • … [Trackback]

    […] Here you will find 8051 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

  • 09/10/2025 at 7:56 ص

    … [Trackback]

    […] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/حَمَلوا-ندوبَ-المجازِر-في-حقائِب-الشّ/ […]

Comments are closed.