عندما خرج “حسن جندو” 38 عاماً وعائلته من “سري كانييه” نازحاً، عَقِب هجوم الجيش التركي وفصائل من المعارضة السورية المُسلّحة، في التاسع من أكتوبر تشرين الأول 2019، لم يكن قد مضى على عودتهم من ألمانيا للاستقرار في المدينة سوى عامٍ واحد.
عائلة “جندو” التي كانت قد هاجرت إلى أوروبا عام 2015، عادت بعد 3 سنوات للاستقرار مرةً أخرى في المدينة، لكن بسبب العملية العسكرية التركية التي أُطلِقت عليها اسم “نبع السلام”، انتهى بها المطاف نازحةً في بلدة “تل تمر” شمال غربي مدينة الحسكة.
«استتباب الأمن والاستقرار وتحسّن الأوضاع المعيشية في “سري كانييه”، كانت من الأسباب التي دفعتني إلى العودة، أردنا أن نعيش في المدينة التي تحتضن آمالنا وذكرياتنا»، يقول “جندو” لـ (شار)، ويُضيف: «لم أكن أتوقّع أن يصل بي الحال، أن أصير نازحاً وغريباً عن مدينتي، ولا أستطيع العودة إليها، رغم أنها لا تبعد عني سوى 35 كيلو متراً».
يعيش “جندو” الآن مع زوجته وأطفاله الأربعة في بلدة “تل تمر”، ويقول إنه لا يُفكّر أبداً بالعودة إلى “سري كانييه” في ظل سيطرة فصائل المعارضة المُسلحة، التي قتلت أبن خاله “مصطفى حسو” وشخصين آخرين في الـ 17 اكتوبر تشرين الأول 2019، أثناء محاولتهم العودة إلى المدينة للاطمئنان على ممتلكاتهم، وهي من ضمن جرائم القتل الكثيرة التي وثقتها (هيومن رايتس ووتش) في تقريرها الصادر يوم 27 نوفمبر تشرين الثاني 2019.
مدينةُ التّعايش.. تَفقُدُ ألوان تنوّعِها:
“سري كانييه”، التي كانت تضم قبل عملية “نبع السلام”، مسلمين، مسيحيين. وإيزيديين، من كُرد، عرب، سريان، أرمن، كلدو آشوريين، شيشان وشركس، ولطالما كانت مثالًا للسلم الأهلي والتعايش المشترك، فَقَدَت ألوان تنوعها القومي والديني، بعد الغزو التركي، لتغدو اللوحة الفسيفسائية السكانية التي تميّزت بها؛ مُمزّقةً كئيبة.
مع مضي عامٍ على سيطرة تركيا وفصائل الجيش الوطني السوري العاملة بإمرتها على “سري كانييه”، وفي ظل غياب إحصاءاتٍ رسمية، يُقدِّر ناشطون من المدينة نسبة العائدين إلى منازلهم من أهلها، بما لا يزيد عن 15% من مجمل عدد السكان، الذي كان يبلغ عددهم نحو 50 ألف نسمة قبيل عملية”نبع السلام”السيئة الصيت.
يشير الناشط الصحفي “أورهان كمال” من أبناء “سري كانييه”، إلى أن غالبية العائدين إلى المدينة «من فئة كبار العمر والمُسنين»، ويقول لـ (شار): «المئات ممن عادوا إلى المدينة لتفقّد منازلهم، غادروها مُجدّداً، خوفاً من الانتهاكات التي يرتكبها مسلحو الجيش الوطني السوري بحق المدنيين من جهة، ولانعدام الأمان والاستقرار وصعوبة الظروف المعيشية من جهةٍ ثانية».

«لا عودة آمنة» في ظلِّ الممارسات الخطيرة لـ «الجيش الوطني»:
«عمدت تركيا إلى نشر مسلحي فصائل معروفة بالتطرف وارتكاب الانتهاكات في سري كانييه، لمنع سكانها من العودة إلى منازلهم، وتهجيرهم قسراً»، خرجت “أم كاوا” بهذا الانطباع بعد أن دخلت للمرة الأولى إلى المدينة، بعد نحو شهرين من سيطرة الجيش التركي وفصائل من المعارضة السورية المُسلّحة.
«كانوا قد غيّروا قفل باب منزلي، واسكنوا فيه عائلة أحد مُسلّحي فرقة السلطان مراد، وكتبوا عليه محجوز»، تقول المرأة الخمسينية لـ (شار)، وتضيف: «كذلك الأمر بالنسبة لمنزل ابنتي، حيث عرّف المسلحون الذين كانوا فيه أنفسهم بأنهم من كتيبة الموت، وأطلقوا الرصاص بالقرب منا لإخافتنا، وطلبوا منا الرحيل وعدم العودة مُجدّداً».
رحلة “أم كاوا” برفقة ابنتها المتزوجة إلى “سري كانييه”، انتهت بطردها وعدم السماح لها بالدخول إلى منزلها في الحي الشرقي لتفقّده، لتعود أدراجها خائبةً إلى مدينة “عامودا” التي تقيم فيها مع أولادها، منذ نزوحِهم عقب عملية “نبع السلام”.
لكن رغم ذلك، لا تزال “أم كاوا” تحتفظ بمفاتيح منزلها في “سري كانييه”، لما لها من رمزيةٍ تتعلّق بالعودة إلى الديار، تقول لـ (شار): «لا شك أننا سنعود في نهاية المطاف، لكن حالياً لا نفكّر بذلك في ظلِّ سيطرة تلك الجماعات، التي لا تتوانَ عن ارتكاب الانتهاكات بحق المدنيين».
تغييرٌ ديمغرافيٌ مُمنهج:
وثّقت (لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا) في تقريرها الأخير الصادر يوم 14 سبتمبر أيلول المنصرم، استيلاء فصائل “الجيش الوطني السوري” على ممتلكات المدنيين في منطقة “سري كانييه”، بعد فرارهم من المعارك خلال عملية “نبع السلام”.
واحتل مقاتلو “الجيش الوطني” وعائلاتهم، ممتلكات المدنيين بعد فرارهم منها، كما أجبروا السكان في نهاية الأمر، وأغلبهم من الكُرد، على ترك منازلهم من خلال التهديد والابتزاز والقتل والاختطاف والتعذيب والاحتجاز.
في حين، أعرب مدنيون للجنة التحقيق عن مخاوفهم من البقاء، وعدم قدرتهم على العودة إلى منازلهم، كما لفت بعضهم إلى أن قادة “الجيش الوطني” ومقاتليه أمروهم بعدم العودة.
«حوّلت الفصائل عديد المنازل لمقراتٍ عسكرية، وأخرى إلى مراكز سرية للاحتجاز والتعذيب، كما كتبت أسماءها أو أسماء قادتها أو مسلحيها على المنازل والمحلات التجارية؛ للإشارة إلى وضع يدهم عليها»، يقول “كمال”، ويؤكّد: «أسكنت الجماعات المسلحة، آلاف الأهالي القادمين من مناطق سوريّة في منازل أبناء “سري كانييه” الفارّين، خاصةً في الأحياء الشرقية والشمالية الشرقية من المدينة، كـ حَيي “زورآفا و”روناهي” اللذان تسكنهما غالبيةٌ كردية، فضلاً عن حي “زرادشت” جنوبي المدينة».
وبحسب ناشطين وصحفيين من “سري كانييه”، فإن عدد العائلات التي استُقدِمت من مدنٍ أخرى على دفعات، يزيد عن ألفي عائلة.
تشرف ولاية “شانلي أورفا” التركية على الناحيتين الخدمية والإدارية في مدينتي “سري كانييه” و”تل أبيض”، بعد عملية “نبع السلام”، بما فيها التعليم، بعد تغيير المناهج الدراسية، ولافتات المؤسسات الرسمية في المدينة، كـ المشفى والمحكمة وغيرها، وكتابتها باللغتين العربية والتركية، وهو ما وثّقه ناشطون وأظهرته أيضاً صورٌ نشرتها مواقع إخبارية مقرّبة من المُعارضة السورية.
يأتي هذا التغيير لأسماء المناطق والمقرات، بعد سنواتٍ من اعتماد الإدارة الذاتية على كتابتها باللغات الثلاث التي يتحدث بها السكان المحليون (الكُردية، العربية والسريانية).
«المنطقة الآمنة» مثالٌ صارخ على انعدام الأمن والأمان:
خلافاً للرواية التركية التي ادّعت أنها ستُنشئ «منطقة آمنة»، شهدت “سري كانييه” وريفها، منذ سيطرة القوات التركية وفصائل “الجيش الوطني السوري”، ما لا يقل عن 36 تفجيراً، أودت بحياة 100 مدني على الأقل، وأسفرت عن إصابة أكثر من 180 آخرين، فضلاً عن قتلى وجرحى لم تتمكّن اللجان المحلية من توثيق نوعية إصاباتهم، بحسب ناشطين مدنيين.
كما شهدت المدينة وريفها، في أوقاتٍ مُتفرّقة، معارك واشتباكات بين الفصائل المُسلّحة، استُخدِمت فيها أسلحة خفيفة ومتوسّطة، وراح ضحيتها طفلة على الأقل، وفقاً لسكانٍ من المدينة قالوا لـ (شار): «لم تعد المدينة وريفها بيئةً آمنة للعيش، ويبدو أنها ستبقى كذلك في ظل سيطرة فصائل الجيش الوطني السوري».
وسبق أن اتّهمت منظمة (هيومن رايتس ووتش) في تقريرها الصادر يوم 27 نوفمبر تشرين الثاني 2019، فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعومة من تركيا، بأنها «منعت عودة العائلات الكردية النازحة جرّاء العمليات العسكرية التركية، ونهبت ممتلكاتها واستولت عليها أو احتلتها بصورةٍ غير قانونية».
وتلك الممارسات، بحسب (هيومن ووتش)، «أدلةٌ دامغة على أن المناطق الآمنة المقترحة من تركيا، لن تكون آمنةً، خلافاً للرواية التركية بأن عمليتها ستنشئ منطقة آمنة، فإن الجماعات التي تستخدمها لإدارة المنطقة ترتكب انتهاكات ضد المدنيين وتُميّز على أُسسٍ عرقية».
27 replies on “عامٌ على الاحتِلال: “سري كانييه” تَرزحُ تحت وطأةِ الانتهاكات والتّغيير الديمُغْرافي”
… [Trackback]
[…] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Here you will find 4744 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 99198 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Here you can find 50479 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Here you can find 75394 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/10/عامٌ-على-الاحتِلال-سري-كانييه-تَرزحُ/ […]
Comments are closed.