يتعالى الرَّقمُ في نشراتِ الأخبار وعبر الألسنةِ في الحيِّ والمدينة، الأرقامُ التي لا يُحبّذها البعض، تغدو حديث الألسنَةِ المشلولَةِ، الرقمُ الذي غدى روحاً، وهو روحٌ في الأسِّ، سوى أنَّه باتَ الآن يُماثِلُ كارثة سوف تبقى إلى حين.

يحمِلونَ النّعوشَ دونَ أن يكونَ خلفها أحدٌ يمجد اسمِ الميِّتِ ويذكرَ محاسنه أو يربت على كتفِ ابنهِ الصغير، ذاك الذي سيغدو رقماً بعد غدٍ، أو بعد أيَّامٍ مُقبِلَةٍ، هكذا في المستشفيات كذلك وعيادات الأطبِّاء، يدوِّن الطبيبُ رقماً آخرَ على بطاقة الاستشفاء، يدوِّن تاريخاً مرئيّاً لا بدّ على المريض أن يحفظَهُ عن ظَهرِ قلبِ أو يطلبَ من زوجتهِ المُسنَّةِ أن تتذكَّرَ قدر الإمكان، فتُخبِرُ المُسنَّةُ ابنتها المهاجرة خارج المدينَةِ أن تذكِّرها استناداً للتكنولوجيا المتطوِّرة في بلادها الجديدة.

في المستشفيات، يرقِّمونَ الأسرَّة واسطوانات الأوكسجين، كذلك ستراتَ الممرَضين وحتَّى سُحناتهم الصفراء، تكونُ المناوباتُ ليلاً وفقَ أرقامٍ تتخلَّلها نقطتان تعلوان بعضهما البعض، دقائقُ وساعاتٌ تغدو أرقاماً لا تنتهي.

المُستشفيات أرقامٌ:

على البابِ الخشبيّ القديم الذي خَبِرَ وجوهَ العشراتِ من المرضى، الخارجين منهم إلى قبرهم، والخارجينَ إلى امتحانٍ جديدٍ في الحياة، الرقمُ نفسه مُدوَّنٌ، لا فرق، الغرفة رقم 320، يخطر في ذهني أن أعدَّ الغُرَفَ، فلا أُبصِرُ سوى طابقين في البناء، طابقَانِ يضجَّانِ بغرفٍ عديدةٍ! هذا ما يخُبرني به ذهني، لكن لا أرى سوى غُرفَاً بمقدورِ المَرءِ أن يعدَّها على أصابع يده العشر، إذاً، لِمَ كلُّ هذه الأرقام المهولة؟! لِمَ التركيزُ على المئات؟! ألا يمكن لعقلٍ يعشقُ الهندسَةَ أن يُرتِّبَ الأرقامَ بدءاً من الصِّفرِ وصولاً إلى المائة، وليس النّقيض؟ أسألُ عاملة الاستعلامات عن سبب المئات في الأرقام على الأبواب الخشبيَّةِ فتهزُّ برأسها غير عارفَةٍ، تُنزِلُ كمامتها القماشيَّة وتبتسمُ، اخترَ غرفةً لمريضكَ بدون رقمٍ إن راقَ لكَ ذلك، ومن ثمَّ تعيد كمامتها لتظهر عيناها وحسب.

المشافي أرقامٌ، الأسرَّةُ النظيفةُ والمتّسخة، الغرفُ المُعقَّمةُ وسلَّةُ المهملات الكبيرة التي تحوي إبرَاً غُرِسَت في أبدانِ المرضى الذين تحوَّلوا أرقاماً فيما بعدٍ قليلْ.

شوارعُ المرضى:

أشعرُ بالشارعِ مريضَاً كذلك، ذاتُ الأرقامِ نفسها مدوَّنةٌ على أبواب بيوت النَّاس، أفكِّرُ، هل تلك الأرقامُ تعني شيئاً فعلاً؟ ابتسِمُ سخريةً من عقلي الخفيف، فمن المؤكّد بمكانٍ أنَّ تلك الأرقام ستعني شيئاً ما لا على التعيين في مخططاتٍ هندسيَّةٍ رُسِمَت بعقول مهندسين، لكن هل الشوارعُ تمرَضُ؟ أو لأغيَّر السؤال كي تستريح ذاكرتي في الإجابة بعضَ الشيء، تُرى إن كانَ العالَمُ مشفىً بعيداً كبيراً في مكانٍ ناءٍ غيرَ الكرة الأرضيَّةِ التي نقطنها، كم أسرّةً كانت تلزَمُ للمرضى لكي تستوعبَ؟، رقمٌ يلي الآخرَ في متواليةٍ، يخشى المرءُ معها أن يُخطِئ في العَدِّ، فيسهو عن مريضٍ بحاجةٍ إلى زمرةِ دمٍ.

يقولُ الممرِّضُ ذو السترةِ الزرقاء رافعاً يده المدماة خارجاً من غرفة العملياتِ المُرقَّمَةِ: نحتاجُ إلى 3 أكياسٍ من الدم على الفور، يُنهي الممرِّضُ كلامه وأُكمِل عنهُ في قلبي، نحتاجُ إلى 3 أكياسٍ من الدم قبل أن يغدو المُستلقي على السريرِ رقماً هو الآخر.

تصوير: شفزان محمود

الموتُ الرقَم:

في احتيالٍ على الأرقامِ وعلى الموتِ والموتى على حَدٍ سواء، يُقالُ أنَّ الموتَ لا يكونُ حين نموتُ، إذاً، أينَ هو مغزى الرقم في كلِّ ذلك؟ يدوّنونَ على التوابيت في ثلّاجَةِ الموتى أرقاماً ثنائيَّةً، تتكرَّرُ الأرقامُ يوماً إثرَ الآخر كلَّما أَخْرَجوا الميَّتَ/الرقَم إلى مثواه الترابيّ تحت الأرض، تتكرَّرُ الأوراقُ ذاتها في يد عاملِ ثلَّاجَةِ الموتى، يتكرَّرُ الرَّقمُ دون أيِّ شعورٍ بالأسى كما يفعلُ الصبيُّ الأشقرُ حين يتعرَّفُ إلى جثَّةِ أخيه، وتتكرَّرُ الحكايةُ حين تتعرَّفُ المسنَّةُ إلى جثَّةِ زوجها، تأخَّرتي في المجيء أيَّتها الجدَّة، يلزمنا السريرُ لرقمٍ آخرَ، أعني لمريضٍ آخرَ، يقولُ الممرَّضْ.

المُستشفياتُ مرَّةً أُخرى:

ما كان بمقدوري أن أشرح لأشباهي أنّي مُتتُ في المستشفى، في غرفَةٍ مرقَّمةٍ، لا غرابةَ في أن أشرحَ لأشباهي أنَّي مُتُّ في الحرب، حينَ يزورني الموتى في قبري بعد أن يفرَغَ النَّاسُ من تمتماتهم فوق قبري المُزدانِ بترابٍ رطبٍ على النقيضِ من سنوات العمرِ اليابِسة التي تكسَّرت عبر الأيَّام، حينها لن يكون بمقدوري كذلك أن أُخبِر الطبيبَ الشرعيّ أن يُسرعَ في إِشهار الموت، أن يدوِّنَ على عجلٍ فوقَ ورقَةٍ مختومَةٍ بحبرِ مدير المُستشفى: تاريخُ الوفاة: 20-3-219 أو يضعَ أرقاماً أُخرى، كأن يكتُبَ: كان يملكُ قلباً واحداً، ورأينا كليتين أيضاً وكبداً واحداً، لا شيء غريب داخل أحشاءه، كان حيَّاً ومن ثمَّ مات للتوّ.

السَّرطان:

الجُرعاتُ التي في يدِ المريض، هي أرقامٌ كذلك، جرعةٌ خلفَ شقيقتها، لا مجال للخطأ، مع أنَّ الخطأ سيَّدُ العيشِ، سننجو جميعاً إن التزمَ المريضُ بأرقام الجُرعات، لا أفهم ما الذي يعنيه القائِلُ بـ جمع كلمة النجاة، لِمَ لَمْ يخبِر المريض بمفرده بذلك وقال له ستنجو؟ أراهنُ مع نفسي على أنَّ النجاة فعلٌ جماعيٌّ، أقولُ في نفسي، الجماعَةُ أيضاً اصطفافُ أرقامٍ خلف بعضها البعض.

أرقامُ الطوارئ:

أقرأُ مصادفَةً أرقامَ الطوارئ خلف صهاريج المياهِ أو عربات نقل المرضى، ذات اللون الأحمرِ الممزوج بخطوطٍ بيضاء، تتكاثرُ الأرقامُ في مخيّلتي، أتذكَرُ على الفورِ تلك الأرقام المفصولَةِ وفقَ تاريخٍ ميلاديٍّ وآخرَ هجريّ وهي مُدوَّنَة على شواهدِ قبور الموتى في المقابر التي تكاثرت هي الأخرى.

أمرٌ مبعثٌ على الضَّحكِ أن يمضي الانسانُ حياتهُ في العَدّ، عدِّ أرقام عمره، عَدّ مرَّات حزنه وابتسامته، عدَّ الأوراق النقديَّة التي تغدو أرقاماً في نهاية كُلِ عَدٍ، تخنقُني الأرقامُ في تكاثرها إلى ما لا نهايَةٍ، أكادُ من فَرطِ تلك الأرقامِ أن أُلصِقَ على جبيني رقماً يُستَدلُّ به عليّ أنا الآخَرَ حينَ أموتُ مصادَفَةً في مكانٍ غريبٍ، في شارعٍ مُرقَّمٍ، أمام بابٍ عليه لوحةٌ معدنيَّة زرقاء ومُدوَّنٌ وسطها رقمٌ بأبيضٍ ناصِعٍ، تعاودُ الذكرى إلى الظهور، لِمَ حياةُ الموتى لا تتكرَّرُ، فيما الأرقامُ على أبواب غُرفهِم تتكرَّرُ؟ لقد رأيتُ في حياتي 4 أسرَّة لـ 4 مرضى، 4 غرفٍ لـ 4 مرضى تحملُ الأرقام ذاتها.

  نهاياتُ الأرقام:

في كُلِّ بدايةٍ، يشعرُ المرء بدنوّ النهاية، فيغدو الأمرُ برمَّتهِ وهماً، لا نهايةَ للأرقامِ، تواريخُ الولادات تتشابه أرقاماً، وكذا تواريخُ الموتِ والمرضِ، تواريخُ الخروجِ من المُستشفياتِ وتواريخُ الدخولِ إليها والجلوسِ على أسرَّةِ الفحصِ وسماعِ نبضاتِ القلب، عددُ مرَّات ابتلاعِ الأقراصِ الطبيَّةِ خلال اليوم الواحِد أو الأسبوع الأوّل والثاني، كلّ هذهِ أرقامٌ لا نهاية لها.

 

28 replies on “حينَ نَرتَدي الأرقام”

  • 06/02/2023 at 1:13 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • … [Trackback]

    […] Here you will find 63540 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 07/05/2023 at 4:54 ص

    … [Trackback]

    […] Here you can find 68452 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 08/06/2023 at 8:00 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 01/23/2025 at 10:10 م

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 01/25/2025 at 4:29 م

    … [Trackback]

    […] Here you can find 96902 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 01/25/2025 at 7:28 م

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 02/05/2025 at 9:03 ص

    … [Trackback]

    […] Here you can find 7082 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 03/09/2025 at 7:52 م

    … [Trackback]

    […] Read More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 03/28/2025 at 5:12 ص

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 03/28/2025 at 8:57 م

    … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 04/19/2025 at 11:52 م

    … [Trackback]

    […] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 04/26/2025 at 1:30 ص

    … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • … [Trackback]

    […] There you can find 30396 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 05/03/2025 at 3:29 م

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • … [Trackback]

    […] Here you will find 1186 more Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 05/18/2025 at 5:53 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 05/21/2025 at 5:14 ص

    … [Trackback]

    […] There you can find 3087 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 06/11/2025 at 6:07 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 06/26/2025 at 6:32 م

    … [Trackback]

    […] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 06/26/2025 at 6:36 م

    … [Trackback]

    […] Here you can find 94111 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

  • 07/23/2025 at 5:51 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/حينَ-نَرتَدي-الأرقام/ […]

Comments are closed.