مع إدراجها منهاجاً للصف الثالث الثانوي بداية العام الدراسي الحالي، تكون الإدارة الذاتية قد استكملت آخر خطواتها في سياق بناء منظومةٍ تعليمية شاملة في إقليم الجزيرة، تبدأ من المرحلة الابتدائية وتنتهي بالجامعية.

المشروع الذي طُبِّق أيضاً في كوباني وعفرين في وقتٍ سابق، بدأته الإدارة في الجزيرة؛ بإدراج مناهج كردية للصفوف الثلاثة الأولى في المرحلة الابتدائية للعام الدراسي 2015/2016. في خطوةٍ تُعدّ سابقة في تاريخ سوريا، لجهة اعتمادها تعليماً متعدد اللغات (الكردية، العربية والسريانية)، بخلاف ما كان متّبعاً في السابق في ظلِّ نظامٍ تعليمي بلغةٍ وحيدة، هي العربية.

لكن الجدل حول العملية التعليمية ومناهج الإدارة الذاتية، كان يتجدّد مع بداية كل عامٍ دراسيٍ جديد، ليس بسبب تحوّل ملف التعليم إلى جزءٍ من الصراع  السياسي فحسب؛ بل لأن عدم توفّر اعتراف رسمي أو دولي بمخرجات العملية التعليمية وعدم تمكّن الإدارة الذاتية من تحقيقه حتى الآن، كان سبباً رئيساً لعزوف شريحةٍ من السكان عن إرسال أبنائهم إلى تلك المدارس. 

وهو ما يؤكّده استبيانٌ لمركز الفرات للدراسات، المقرّب من الإدارة الذاتية، أُجري أواخر 2019  وأظهر أن مسألة عدم وجود اعتراف بالعملية التعليمية؛ يُعدُّ من بواعث القلق لدى الشارع الكردي في إقليم الجزيرة فيما يتعلّق بمستقبل الأطفال.

لم تقتصر الانتقادات التي كانت توجّه للتجربة حديثة العهد، بسبب عدم وجود اعترافٍ بالمنظومة التعليمية؛ بل كانت تشمل أيضاً مستوى المواد الدراسية من الجانب العلمي والتربوي، في ظلّ تدني كفاءة الكادر التدريسي العلمية والتربوية، إضافةً إلى استغلال القناة التعليمية الملزمة، بهدف الترويج لإيديولوجيةٍ سياسية بعينها.

ليتحوّل ملف التعليم إلى مثار شقاقٍ جديد في الشارع الكردي، فيما كان جذر الإشكال الحاصل يعود إلى أن المشروع الذي طُرِح في ظل ظروفٍ سياسية واجتماعية واقتصادية عامة صعبة، كان من الطبيعي أن تولد لدى شريحة واسعة من السكان مخاوف جدية وردود سلبية تستوجب الرد والتعامل معها بحساسية ومنطقٍ مقنع.

في حين لم يكن رفضُ المشروع يُفسَّر لدى بعض مؤيدي الإدارة ومشروعها التعليمي، إلا كضعفِ انتماءٍ قومي وفقدانٍ للهوية الوطنية.

وبرغم امتلاكها أسباباً وجيهة ودوافع قد تتعلق بمحاولة خلق أمرٍ واقع، يساهم في انتزاع الحقوق الثقافية للكُرد والسريان كمكتسبات، حتى قبل إيجاد حلٍّ شامل للآزمة في سوريا؛ إلا أن الإدارة الذاتية كانت تُفضّل استخدام الحزم في فرض قراراتها، كإغلاق المعاهد التعليمية الخاصة التي تعتمد تدريس المناهج الحكومية مثلاً، واعتقال مدرسي الدورات الخصوصية. 

الأمر الذي كان يفاقم من حساسية الشارع تجاه مشروعها، عدا أنه يؤخذ عليها أيضاً، أنها لم تعمد يوماً إلى اعتماد القوة الناعمة أو التواصل بشكلٍ مباشر مع شرائح المجتمع، عبر لقاءاتٍ جماهيرية، لكسب ودِّ رافضي مشروعها وتهدئة مخاوفهم، حتى بالنسبة لمن يمتلكون خلفيات سياسية لموقفهم الرافض.

قصارى القول، إن الأجواء المشحونة والجدل الذي كان يثار حول العملية التعليمية؛ كان يعيد التأكيد في أحد جوانبه على ما للخلافات السياسية الكردية من تأثير في تسميم جميع جوانب الحياة العامة، إلى درجةٍ أنه يكاد يلغي أيّ هوامش لإمكانية خلق نقاشٍ جاد، بين موالي الأطراف السياسية المختلفة أو التقائهم حول حدٍّ أدنى من القيم الوطنية، فضلاً عن إمكانية التوافق على قضايا مصيرية تتّصل بالصالح القومي أو الوطني العام، وبالتالي؛ فإنه كان يلغي حتى إمكانية الاستفادة من أيّة مبادراتٍ فردية أو مقارباتٍ نقدية جدية للمشاريع المستجدة، حتى وإن كانت من جانب مختصين من خارج الأطر السياسية المختلفة.

الآن وبعد مرور أكثر من ست سنوات على بداية المشروع، تستجدُّ ظروف وعوامل جديدة، بالإضافة إلى ظهور مؤشراتٍ تدعم إمكانية إجراء تعديلاتٍ كبيرة، وربما جذرية على مناهج الإدارة الذاتية، ضمن مساعٍ لانتزاع اعترافٍ أممي بهذه المناهج، منها ما استجدّ عقب وصول الإدارة الأميركية الجديدة إلى البيت الأبيض، كعودة التواصل بين منظمة الطفولة في الأمم المتحدة (اليونيسيف) ومؤسسات الإدارة الذاتية حول قضية المناهج، الأمر الذي أكده مسؤولون في الإدارة، بداية شهر شباط/ فبراير الماضي، رغم تصريحهم بعدم «التوصل إلى نتائج».

ومع أن التواصل بين المنظمة الأممية ومؤسسات الإدارة الذاتية التعليمية يعود إلى فتراتٍ سابقة، إلا أن الجديد هذه المرة؛ هو حدوث لقاءٍ بين وفدٍ رفيع من المكتب الإقليمي للمنظمة الأممية في الأردن، مع مسؤولين من الإدارة منتصف شهر كانون ثاني/ يناير الماضي، ومن ثم حضور الوفد حصة دراسية ضمن إحدى مدارس الإدارة الذاتية في مدينة الحسكة، وتبادل النقاش مع الكوادر التدريسية فيها.

تصوير: جانو شاكر

برغم أنه لم يصدر حتى الآن من المنظمة الأممية أيّ ردود عقب تلك الزيارة، وهو ما يُتوقَّع أن يكون في جميع الأحوال، فإنه يوحي في ذات الوقت أن مقاربة “اليونيسيف” قد تتعلّق حالياً فقط بإجراء تقييمٍ عام لمناهج الإدارة، وفق مصادر مطلعة.

من جانبها، أعلنت الإدارة الذاتية خلال شهر شباط/فبراير، على لسان الرئيس المشترك لهيئة التربية والتعليم “رجب المشرف”، أنها «ستسعى خلال العام الدراسي الجديد إلى إنشاء منهاجٍ موحّد في عموم مناطقها، يكون ذو معايير دولية، عبر تنظيم ورشات لكافة الاختصاصات التربوية بمشاركة خبراءٍ تربويين عاليي المستوى، للعمل على وضع هذا المنهاج، وذلك ضمن تعديلاتٍ تتوسّم انتزاع اعتراف الأمم المتحدة واليونيسيف».

ولا يُخفى في هذا السياق، أن الإدارة الذاتية تراجعت عن فرض مناهجها على مدارس الطبقة، الرقة وريف دير الزور الشرقي، بعد ظهور معارضة للمشروع ووجود تفضيل لاستمرارية المناهج الخاصة بمنظمة اليونيسيف، والتي توفّر إمكانية اختصار كل عامين دراسيين في عامٍ واحد، في ظل وجود نسبةٍ كبيرة للمتسربين من التعليم.

كما أنها عمدت مع بداية العام الدراسي الحالي، إلى إجراءٍ غير مسبوق من حيث إلغاء مادتي الجنولوجيا (علم المرأة) والمجتمع والأخلاق، الموصوفتين بمقررات إيديولوجية، من الصف التاسع والصف الثالث الثانوي في مدارس إقليم الجزيرة، إضافةً إلى إيقاف الدورات التدريبية المغلقة للكوادر التدريسية والتي كانت تضمّ في قسمٍ منها على تأهيلٍ فكري وإيديولوجي.

يأتي ذلك، في ظلِّ وجود أنباءٍ تفيد بتوجّه منظماتٍ دولية إلى تقديم مشاريع ومبادرات تدعم مأسسة عمل الإدارة الذاتية، عبر دعمها ببرامج وورشٍ وخبراء، من بينهم مختصون في وضع المناهج.

ختاماً، من المحتمل أن تكون عملية إيجاد مناهج تعليمية موحّدة في مناطق الإدارة الذاتية بدعمٍ دولي، تأتي في سياقٍ أشمل يستهدف تطوير الإدارة وتقديم مناطقها كأنموذجٍ لسوريا المستقبل، وهو ما سيوفّر حتماً عوامل وظروف مساعدة لتحقيق توافقٍ بين الأطراف السياسية الكردية على جميع الملفات، بما فيها ملف التعليم.

لكن في حال لم تجرِ عملية إنشاء هذه المناهج ضمن هذا السياق الإيجابي الداعم، حينها لن يكون معلوماً كيف ستسير الإدارة الذاتية في إدارة ملف التعليم، وإن كان يؤمل منها أن تستفيد من تجربتها، وتتجنّب إهمال مخاوف الناس المتعلّقة بمصالحهم الحيوية وقضاياهم المصيرية.

في المقابل، ليس معلوماً كيف سيكون ردّة فعل معارضي الإدارة الذاتية، وإن كان يؤمل منهم أيضاً أن يتحلّوا بالمسؤولية ويتحاشوا أيّة مقارباتٍ من شأنها أن تُحوّل ملف التعليم، الذي يتصل بمستقبل الأجيال القادمة، إلى ميدانٍ للصراع السياسي.

26 replies on “الإدارةُ الذّاتيّة وملف التعليم..هل من جديد؟”

  • 06/02/2023 at 3:45 م

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 01/20/2025 at 3:57 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 02/28/2025 at 5:55 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 03/01/2025 at 11:11 م

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 03/03/2025 at 5:20 ص

    … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 03/05/2025 at 1:29 م

    … [Trackback]

    […] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 03/05/2025 at 4:21 م

    … [Trackback]

    […] Here you can find 4803 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 03/08/2025 at 9:33 م

    … [Trackback]

    […] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 03/12/2025 at 8:22 م

    … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 03/16/2025 at 1:06 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 03/30/2025 at 11:32 ص

    … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 04/23/2025 at 8:09 م

    … [Trackback]

    […] There you will find 36736 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 05/10/2025 at 5:40 ص

    … [Trackback]

    […] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 06/01/2025 at 8:29 ص

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 06/02/2025 at 1:21 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 06/07/2025 at 1:55 ص

    … [Trackback]

    […] There you can find 79947 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 06/08/2025 at 9:15 م

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 06/26/2025 at 6:54 م

    … [Trackback]

    […] There you will find 85087 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 07/07/2025 at 1:54 ص

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 07/28/2025 at 5:05 م

    … [Trackback]

    […] There you can find 55362 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 08/09/2025 at 2:43 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

  • 09/04/2025 at 8:07 م

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/03/الإدارةُ-الذّاتيّة-وملف-التعليم-هل-من/ […]

Comments are closed.