انتشرت الطواحين المائية، التي استُخدِمت لطحن الحبوب، بكثرة في المناطق الشمالية الشرقية من منطقة الجزيرة،إضافة لانتشار عشرات النماذج الشبيهة في مناطق أخرى من سوريا، لا سيما على ضفاف نهري العاصي والفرات، وبقيت مستخدمة لفتراتٍ طويلة بهدف إنتاج الطحين أو الدقيق، قبل أن تغزوها الآلة البخارية وتحلَّ مكانها.
تُعدُّ هذه الطواحين وريثة الرحى الحجرية اليدوية التي كانت تشتهر بها مناطق شمال “ميزوبوتاميا” منذ ولادة العصر الحجري الحديث، مع اكتشاف الزراعة، وكانت البداية مع الجرن الحجري الذي كانت توضع الحبوب بداخله وتدقُّ بمدقّةٍ حجرية، ومن ثم استُخدِم حجرٌ بازلتي طولي مقعّر توضع فوقه الحبوب ويحتكُّ بحجرٍ بازلتي طولي ذهاباً وإياباً.
ثم أتت بعد ذلك، الرحى الحجرية اليدوية (Destar)، ثم الطاحونة المائية التي تميّزت بها مناطق الجزيرة، بسبب كثرة الينابيع والمجاري المائية والأودية والأنهار التي كانت العامل الرئيس في وجود هذه الطواحين، إلى جانب وفرة المحاصيل الزراعية، كالقمح والشعير.
جذورٌ تاريخيّة وإرثٌ حضاري
ظهور هذه الطواحين، كان في مناطق مختلفة بحسب الحاجة إليها، حيث اعتُبِر هذا الشكل من التعامل مع الواقع؛ عملية إبداعية ولاحقاً إرثاً حضارياً.
يؤكد الدكتور الباحث “آزاد علي” المتخصّص بالعمارة الطينية، على أن تقنية استخدام الماء لتدوير الآلات عموماً والطواحين خصوصاً، «لها جذور تاريخية عميقة في مناطق “بوتان” و”آمد” (ديار بكر)، حيث ازدهرت تماماً إبّان الدولة المروانية- الدوستكية، مطلع الألف الأول للميلاد، وكانت هذه الطواحين المائية إلى فترةٍ متأخّرة؛ امتداداً لهذا الإرث الحضاري والاجتماعي، وترجمةً للخبرة والتقنيات المتوارثة في المناطق الكردية».
طواحين الماء: الانتشار والتوثيق
تنتشر في المناطق الشمالية الشرقية من الجزيرة، من “ديرك” حتى أطراف قامشلو، بقايا نحو ثلاثين طاحونة بأحجامٍ مختلفة، ناهيك عن اختفاء آثار عشرات الطواحين المائية الأخرى، بعضها كانت متواجدة في مدينة قامشلو وعامودا ومناطق أخرى من الجزيرة.
معظم هذه الطواحين، مبنية من الحجر البازلتي الأسود والحجر الكلسي المشغول وغير المشغول، كما استُعين بمونة اسمنتية مخلوطة بالرمل والبحص النهري في ترميم البعض منها في أوقاتٍ لاحقة متأخرة.
وُجِدَت معظم هذه الطواحين بالقرب من المياه الجارية، وكانت تتكوّن من قناةٍ أفقية وأخرى عمودية (أبراج الإسقاط أو بئر التشغيل) ومبنى رئيسي مؤلّف من جزأين:
- الجزء السفلي: يحتوي على العجلة الدوّارة ذات الشفرات التي يتم التحكم بها عن طريق ضغط الماء.
- الجزء العلوي: وهو المخصص لعملية الطحن، وكان يحتوي على رحى مستديرة واحدة ثابتة وأخرى متحركة، إضافةً لأدواتٍ يتحكّم الطحّان من خلالها بتشغيل الطاحونة أو إطفائها، وأخرى للتحكّم بدرجة نعومة الطحين أو خشونته.
ووثّقت هيئة الثقافة في الجزيرة من خلال مديرية الآثار، عام 2018 نحو 27 طاحونة، عبر عمليات التصوير ورسم المخططات الهندسية وجمع البيانات والمعلومات التاريخية عنها، منها 14 طاحونة في ريف ديرك، و7 في منطقة “آليان”، و4 في منطقة وادي الجراح، واثنتين بريف قامشلو الشرقي.
مُلكيّة متعاقبة تاريخيّاً
تُعدُّ طاحونة “حياكة” الواقعة غرب ديرك على الضفة اليسرى لمجرى نهر “السفان”، أحد أقدم الطواحين المائية في الجزيرة والتي لا تزال آثار قناة الماء وبرج الإسقاط فيها موجودة، وتعود ملكيتها لـ “كبرو حورة” بحسب ما أفاد به “عبد الله حاجي محمد” وهو من سكان القرية.
إلى جانب طاحونة “حياكة”، تُعدُّ طاحونة “باكروان” في شمال “جل آغا” على الضفة اليسرى لنهر “دوآف” أو “باترزان” ضمن منطقةٍ غنيّةٍ بالينابيع عند الحدود الدولية السورية- التركية، واحدة من أقدم الطواحين المائية في الجزيرة، ويعود تاريخها إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وكانت ملكيتها عائدة إلى (الملا أوصمان) من سكان جزيرة “بوطان”، بحسب ما أكّده “أحمد حسو كلش” من أهالي القرية.
وقد توقّفت هذه الطاحونة، المبنية من الحجارة الكلسية، منذ بدايات القرن العشرين عن العمل، وما هو متبقٍ منها الآن مجرد جزء من بئر التشغيل بفتحةٍ واحدة، إضافةً لأساسات القناة المائية مع بعض الحجارة المتناثرة.
أما طاحونة “شوتي” جنوب قرية “شوتي” (شرق مدينة قامشلو بنحو 10كم وجنوب جبال طوروس بنحو 8كم على الضفة اليسرى لأحد روافد نهر جقجق)، فإنها تُعدُّ من أهم الطواحين المائية الموجودة في المنطقة، كونها لا تزال تحافظ على جميع معالمها وأجزائها، بما في ذلك؛ القناة المائية وكتلة آبار التشغيل وغرفة الآلات وأحجار الرّحى، على الرغم من الأضرار الحاصلة في القناة المائية وغرفة الطحن وآبار التشغيل، بسبب العوامل الجوية.
من المرجح أن تاريخ إنشاء هذه الطاحونة يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، وأنها رُمِّمت في العشرينيات خلال فترة الانتداب الفرنسي، واستمرت بالعمل حتى أواخر التسعينيات من القرن العشرين.
حيث يُعتقَد أن ملكيتها كانت تعود لعائلةٍ مسيحية، قبل أن تنتقل لأحد شيوخ عشائر “طي” بعد اكتشافه الطاحونة التي كانت مدفونة تحت الأنقاض، والذي رمّمها باستخدام حجارة كلسية أتى بها من شمال كردستان.
بعد أن باشرت الطاحونة بالعمل مُجدّداً، أُجِّرت مع الأراضي المحيطة بها، لشخصٍ أرمني يُدعى “سعيد جنكو أبو كبرو” الذي عيّن بدوره شخصين مسيحيين (Qerraş) لإدارتها، حيث كانت تعمل من الصباح حتى المساء، على مدار العام، ويتوجه إليها الفلاحون بقمحهم وشعيرهم قادمين من نحو 30 قرية من القرى المحيطة بها، وفق ما أكّده “بدران خليل” (أحد كبار السن من القرية).
قبل أن تتوقّف طاحونة “شوتي” عن العمل؛ انتقلت ملكيتها إلى شخصٍ آخر يدعى “حبيب سليمان” الذي أدارها لنحو عشرة أعوامٍ أخرى، إلى أن توقّفت نهائياً بسبب نقص المياه في الوادي الذي كان يُغذّي الطاحونة، وذلك بعد أن غيّرت تركيا مجرى الوادي، بحسب “عباس حمدي” وهو من سكان القرية وأحد الذين كانوا يرتادون الطاحونة.
الاندثارُ الطبيعي
معظم الطواحين في الجزيرة، توقّفت عن العمل مع نهاية القرن العشرين، بسبب ظهور مطاحن نصف آلية تعمل بمحرّكات الديزل والطاقة الكهربائية، ثم ظهور المطاحن الكبيرة، كنتيجةٍ لعمليات التأميم الحكومي للتجارة الداخلية والخارجية والتي كانت السبب الرئيس في توقّف الطواحين المائية القديمة في المنطقة.
29 replies on “الطَّواحينُ المائيّة في منطقة الجزيرة”
… [Trackback]
[…] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 29554 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 89941 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Here you will find 29314 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Here you will find 89450 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Here you will find 89780 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Here you will find 7710 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/04/الطَّواحينُ-المائيّة-في-منطقة-الجزير/ […]
Comments are closed.