استفادت الأحزاب الكُردية من هامش الحرية والعمل الحزبي بعد 2011، فتوسّعت تنظيماتها مع اندفاع فئات مجتمعية جديدة نحو السياسة، إلا أنها عادت لتخبو وتتقلّص من جديد بعد بضعة أعوام، لأسبابٍ وعوامل عديدة.

وقد كان عزوف الشباب عن الانضمام أو الاستمرار في العمل الحزبي، مدعاة للكثير من التساؤلات عن مدى قدرة هذه التنظيمات الحزبية على المضي قُدماً في العمل السياسي ضمن بلد يشهد حربا أهلية، دون وجود نسغٍ شبابي يدعم الاستمرارية والتجدد. 

لعل أهم الأسباب التي أسهمت في حدوث زخم نسبي للانضمام إلى الأحزاب في الفترة الآنفة الذكر، هو اعتقاد شرائح شبابية عديدة أن الأحزاب ستحمل لواء التغيير المطلوب، وتسهم في تحقيق طموحاتها، كالمشاركة في القرار السياسي والوصول إلى الأهداف المعلنة في البرامج السياسية، بما تنطوي عليها من مزايا، كتوفير مساحة للعمل وإبداء الرأي وتطوير القواعد الحزبية.

إلا أن الفئات ذاتها، اصطدمت بتنامي ظاهرة الانشقاقات بعد 2011، إضافةً لاصطفافاتٍ عائلية وشللية داخل التنظيم السياسي والذي أدى بدوره، إلى الاستنكاف الجماعي عن العمل الحزبي وتراكم القطيعة بين الفئة الشبابية والأحزاب.

رافق كل ذلك، بروز قضايا ناشئة ومفاهيم جديدة لامست جوهر وعصب التطلعات الشبابية، كقضايا التنمية وظهور منظمات المجتمع المدني، بما تنشره من أفكارٍ حول المناصرة والتخطيط الاستراتيجي، ما أزاح الغمامة عن أعين القواعد الحزبية، وبدأت التساؤلات تُثار حول غياب برامج حزبية مماثلة ومدروسة تربط المقدمات بالنتائج وتدفع نحو المطالبة بتطوير الهياكل التنظيمية، بما يستوعب فئات كالشباب والمرأة.

قابَلَ ذلك، استمرارٌ في الوتيرةِ المتباطئة في عملية اتخاذ القرارات وظهور صراعاتٍ بين قيادات الصف الأول فيما بينها من جهة، وضد القواعد من جهةٍ أخرى، لا سيما أصحاب الكفاءات، فتولّد عن كل ذلك، حالةٌ من الاستياء والنكوص عن العمل الحزبي.

تصوير: بيروز بريك/ أرشيف المجلة
تصوير: بيروز بريك/ أرشيف المجلة

مشكلة هذه الأحزاب، هي أنها تعمد إلى “الحبو” في كل توصيفٍ لها حول علاقتها بالوسط المجتمعي والقواعد الاجتماعية، خاصةً في هذه الفترة مع التغيّرات الجذرية التي طرأت على أغلب دول العالم، وتغيّر التحالفات والكتل السياسية، وتبدّل الأنظمة العالمية، ودور كل تلك المفاهيم في نقل الجيل الجديد- ومنهم أبناء الحزبيين أنفسهم- إلى راهنيّة ووضعية جديدة.

فعلى الرغم من أهمية العمل الحزبي وضرورة تطوير الأحزاب نفسها بنفسها، وما قدّمته سابقاً من تمثيل الكُرد والدفاع عن مطالبهم قومياً وشعبياً، إلا أنه لم يعد كافياً ولا مناسباً التذكير بما أنجزوه قبل عقود، واستحضاره كنماذج لما قدمته على الصعيد الاجتماعي.

فالراهن الشعبي يطرح أسئلةً ثلاثة، تُلخّص بمجملها طبيعة العلاقة بينه وبين الحركة السياسية،  بعد أن كانت الألسن تلوك استفساراتها سراً، باتت تفصح عنها علناً، أولاً: لماذا تطالب الوجوه الحزبية بالتغيير وهي نفسها عصيّة عن التغيير؟!.

وثانياً: كيف تطورت دائرة الاستفهام حول مطلب الأحزاب الكُردية في الدعم الشعبي والجماهيري لها بتغيير مقارباتها السياسية القديمة، وهياكلها المحلية والمركزية؟!، لكنها تمنع مطلب وصول التغيير إليها، عامدةً إلى خلق طوقٍ حول نفسها يَصعَبُ اختراقه، ليكون  بذلك التغيير الذي يتحدثون عنه للمجتمع المحلي، مجرد شعارٍ باهت. 

أما ثالثاً: كيف لجميع الأطراف الكُردية أن تطالب بالتعددية السياسية والديمقراطية وحرية العمل الحزبي، لكنها تفتقدها في ممارساتها ضد قواعدها؟!، أو في مواجهتها لمطالب القواعد؟!. إذ يبقى التغيير الداخلي عصياً على التنفيذ، وفقدان الانتقال السلس للمناصب بينهم بالترافق مع غياب الديمقراطية عن الكونفرانسات والمؤتمرات الحزبية وغياب شفافية الانتخابات.

نادراً ما لا تشهد المؤتمرات الحزبية انشقاقاً، والأكثر سخطاً مجتمعياً، كانت الانشقاقات التي حصلت في بداية الحدث السوري، طمعاً وصراعاً على المال، كل ذلك؛ شكّل عاملاً حاسماً في العلاقة المفككة والمربكة بين المجتمع والأحزاب.

جدلية العلاقة بين الأحزاب والشباب من جهة، والتقصير العميق للأحزاب على صعيد الترابط الاجتماعي من جهةٍ أخرى، أدى إلى تمازج الأسباب الذاتية والموضوعية في تنميط رأي الشباب والشرائح المجتمعية حول الحزب الكردي لثلاثة أسباب:

الأول: الملل من القواعد الجامدة واستحضار الأحاديث والتفسيرات ذاتها دوماً، ما خلق صراعاً بين الجيلين والشرائح الحزبية.

الثاني: عدم انتباه تلك الأحزاب إلى سلاح السوشيال ميديا ومواكبة القاعدة الحزبية وتفاعلها مع الفضاء الالكتروني المفتوح للتساؤل وللتزود بالمعلومات، ما ساعد على تعميق الشرخ.

أما الثالث: كسر الشباب التابوهات التي قيّدت بها الفئات الحزبية على مدى عقود، حيث ارتفعت الأصوات عالياً: إلى أين ماضون؟ وهو ما قُوبِل بالجواب نفسه على مدى عقدٍ كامل، وإن تم “مكيجته”.

كما منحت الأحزاب أيضاً، صورة نمطية غير محبّبة عن نفسها، وبدت منقسمة على ذاتها وفق ثلاثة مقاييس: المقياس الأول، تمثيل سياسي جامد تاريخياً، لا يمتلك مرونة التغيير أو التطوير، فغابت عنه ميزة التأثير بمجريات الحداثة والتقدم. 

والثاني، أحزابٌ حاولت كسر الجمود والتحرك نوعاً ما، وكسر تعنّت البنى الفوقية الكلاسيكية، وهذا ما أدى بدوره إلى الصدّام بين عقلين كُرديين متخاصمين ومتناقضين والذي يحسم عادة لصالح السائد والراكد على حساب المتجدد والطامح.

أما الثالث، فهو التنظيم السياسي المنشود والمفقود،  الذي يقوم على القطيعة مع القديم، يؤمن النفاذ للقوة الصاعدة، وإقامة تحالفٍ مزدوج بين الشباب والسياسيين المتنوّرين، هذه الأمور كلها، تلعب حالياً دوراً ريادياً في ترسيخ الصورة النمطية عن الأحزاب الكردية لدى المتلقي الكُردي.

لا تزال أحلام الشباب تتكرّر حول تعليمٍ جيد، وحقوقهم في المشاركة السياسية لصناعة القرار، وتحسين وضعهم الاقتصادي، إضافةً للعيش في أجواءٍ آمنة وبيئةٍ نظيفة خضراء، بدلا من زجهم في الصراعات الحزبية.

 كل هذه المطالب، ما عاد بإمكان أي حزبٍ أن يحققها، وليس المطلوب منها تأمينها، بل هو واجبٌ على أيَّ سلطةٍ تدير دفة البلاد وتتحكّم بثرواته.

تصوير: بيروز بريك/ أرشيف المجلة

لكن الأحزاب بإمكانها تعويض الفاقد الميداني في هذا المجال باللجوء إلى الخطط التنموية والاستراتيجية للتطوير الفردي والجماعي، وتأهيل كوادرها، وتعزيز الديمقراطية الداخلية لديها، وإغلاق ملف التصفيات السياسية والابتعاد عن قمع أصحاب الأفكار والتوجهات المختلفة عن آراء القيادات الحزبية. 

ربما حينها تجد الأحزاب أن العودة العكسية تتوضّح معالمها، لكنها ستكون ببطءٍ شديد، كنتيجةٍ منطقية لفقدان عامل الثقة، خاصةً أن الفئات الناشئة والصاعدة، ما عاد لها أن تتأطّر ضمن محاولات الصهر مجدداً، خاصةً بعد اطلاعها على التجارب المدنية والسياسية لدول الجوار أو ما استفادت منه عبر المنصات الرقمية التي ساعدت المهاجرين في نقل صورة الحياة اليومية والسياسية في مختلف الدول إلى الداخل، حيث الهيكلية والأفعال الكلاسيكية للأحزاب.

أكثر ما تتمنّاه الأجيال الناشئة من منتسبي الأحزاب السياسية الكردية في سوريا، هو البدء بعملية إصلاحٍ حزبي، وإيقاف تدفّق إنشاء أو انشقاق الأحزاب التي تحوّلت شعاراتها وبياناتها التأسيسية حول وحدة الصف الكُردي، إلى نُكتةٍ سمجة يتداولونها عبر الوسائط الاجتماعية.

في وقتٍ تنحصر نظرة المجتمع المحلي للحوارات الكُردية الداخلية في كيفية توفير حياةٍ كريمة آمنة ومستقرة، وحماية أبنائهم ومستقبلهم التعليمي.

31 replies on “لماذا يستنكف الشباب الكردي عن العمل الحزبي؟”

  • … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 06/19/2023 at 5:05 ص

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 07/09/2023 at 6:35 ص

    … [Trackback]

    […] Here you can find 7911 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 07/11/2023 at 12:37 ص

    … [Trackback]

    […] There you will find 32343 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 08/04/2023 at 3:24 ص

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 08/24/2023 at 2:01 ص

    … [Trackback]

    […] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 08/25/2023 at 9:57 ص

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 02/07/2025 at 8:32 ص

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 02/26/2025 at 9:34 ص

    … [Trackback]

    […] There you will find 46267 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 02/26/2025 at 1:02 م

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 03/01/2025 at 5:31 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 03/01/2025 at 10:34 م

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 03/09/2025 at 5:39 ص

    … [Trackback]

    […] Here you can find 68167 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 03/24/2025 at 1:53 ص

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 03/29/2025 at 10:59 م

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 04/07/2025 at 1:21 ص

    … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 05/15/2025 at 8:42 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 05/30/2025 at 4:23 ص

    … [Trackback]

    […] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 06/16/2025 at 12:50 م

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 06/29/2025 at 5:14 ص

    … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 07/02/2025 at 10:07 م

    … [Trackback]

    […] There you can find 39506 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 07/13/2025 at 4:27 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 07/14/2025 at 2:40 ص

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 08/03/2025 at 3:28 م

    … [Trackback]

    […] Here you can find 9260 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • 08/10/2025 at 7:20 ص

    … [Trackback]

    […] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/05/1849/ […]

Comments are closed.