اتّسمت العقود الثلاثة الأخيرة، بتدهور طال علاقة التجاور بين العرب والكرد في سوريا، فعلى المستوى السوري، ثمّة علاماتٌ فارقة على مسار هذا التدهور، أولها، بدأ مع مجازر النظام العراقي بحق الكرد، ثم حرب الخليج وتأسيس فيدرالية كردية، وأخيراً، سقوط النظام العراقي الذي اعتبره كُثُر نظاماً قومياً تآمر عليه الكرد والشيعة مع الأميركيين.
بعد عام 1990، تصاعدت مطالبات الكرد في سوريا بحقوقهم، وقوبلت بالقمع من جانب نظام الأسد، وبالريبة والشك والتخوين على مستوى الشارع العربي السوري، مع وجود استثناءات لناشطين حقوقيين ومناضلين سياسيين، وقفوا موقفاً إيجابياً من مطالب الكرد.
لا أرمي في هذه المقالة إلى تصوير العلاقات بين الكرد والعرب كعلاقاتٍ مسمومة تاريخياً؛ بل النظر في تحوّل السرديّات والنظرة المتبادلة بين العربي والكردي، فالعلاقة لم تكن ثابتة واتّسمت بالتحوّل والتغيّر من مرحلة تاريخية لأخرى، ولا يمكن قراءة كل مرحلة بالمفردات واللغة ذاتها، لكن أعتقد أن ثمة مرحلة أساسية في تشكيل هذه العلاقة تؤثر في اللحظة الراهنة، وهي مرحلة تشكيل دول المنطقة التي أتت نتيجة عوامل خارجية:
انهيار الإمبراطورية العثمانية وتقاسم القوى الاستعمارية تركتها ومن ثم تشكيلها دولاً، صاغت هذه الدول بعد استقلالها عقودها الاجتماعية، دون الأخذ بعين الاعتبار المكونات الإثنية والدينية الموجودة فيها، بل كان يقودها حس الأكثرية.
إن بناء أيّة سردية عن الآخر، يعني وجود (نحن) جماعية تنطلق من ذاتها وتبني صورةَ الآخر، وفي الحالة العربية، يبدو مفهوم (نحن) مكوّناً من مزيجٍ عروبي وإسلامي، بُنِي في خضم الصراع مع الاستعمار، وبذلك، كان الآخر دوماً هو الغرب الاستعماري الطامعِ بالأمة العربية منذ أيام الصراع مع الصليبين، مروراً بحروب الغرب مع الإمبراطورية العثمانية، ومع أن مفردة الأمة العربية تشمل العربي المسيحي أيضاً، لكنها لم تفترق لحظة واحدة عن مفهوم الأكثرية المسلمة، والدليل على ذلك، أن كل الأنظمة القومية العربية، لم تفكّر بالخروج عن مفهوم الإسلام ديناً للدولة أو مصدراً أساسياً للتشريع ولقانون الأحوال الشخصية.
ولا شك أن القومية كفكرة نشأت في الغرب، وتلقّفها كل من القوميون الأتراك والقوميون العرب الأوائل وكذلك الكرد، ومن حيث الأساس النظري، جمعت الأفكار القومية العربية الفكرة الفاشية عن وجود جوهر أو روح للأمة منذ الأزل وإلى الأبد، ومهمة القوميين العرب تقوم على بعثها.
مشكلة هذه الفكرة، أنها لا تحمل في تصوّرها مكاناً للأقليات الأخرى، ولما كان كل نموذج فاشي أو قومي يحمل “يوتوبيا” مثالية حالمة، غالباً تتصور مجتمعاً متماسكاً تخلو فيه التناقضات الداخلية (عدا صراع الطبقات في النسخ الاشتراكية العروبية)، كان من الطبيعي أن يكون الوعي العروبي مقترناً بفكرة الأمة بالمعنى الإسلامي.
فالنموذج المثالي الوحيد في مخيّلة العرب، هو نموذج الحضارة العربية الإسلامية الموحّدة من المحيط والخليج والتي بلغت الصين (ولنتذكر هنا كيف كان موسوليني يتغنّي بأمجاد روما، كنموذج يحيل إليه مخيّلة الجماهير)، وحديث «خير أمة أخرجت للناس» يتخذ معنىً عروبياً في الوعي الجمعي، حتى أن المخيال الجمعي، يتصوّر اللغة العربية لغة أهل الجنة!، وهذا يؤسس لشيءٍ من الفوقية في التعاطي مع الآخر.
ولما كان المطلب هو توحيد الأمة العربية أمام حدود اصطناعية صنعها الاستعمار، تصبح المهمة الأولى هي التصدي لمؤامرات الاستعمار ودسائسه، ويكاد يكون هذا الاستعمار هو الآخر الوحيد في بناء مفهوم الذات، ما يجعل هذه الذات الجماعية ترى في كل ما يخرج عن الإجماع السائد مؤامرةً على الأمّة، أو أي آخر قريب ملحقاً بالآخر المستعمر، فهو لا يرقى لأن يكون آخراً بذاته، طالما أنه خرج عن إجماع الأمة المنشود.
وحقيقةً، رغم أن أدبيات المعارضة السورية ترى أن التعامل العنصري مع الكرد بدأ مع حزب البعث، لكن الحقيقة أن الأمر أقدم عهداً، والجديد فقط؛ هو الأيديولوجية القومية البعثية، وأقتطِفُ هنا شيئاً مما ورد عن الكرد في تقرير وزير المعارف “محمد كرد علي” في حكومة “تاج الدين الحسيني” أيام الانتداب الفرنسي بعد جولته في منطقة الجزيرة: «إنني أرى أن يسكنوا بعد الآن في أماكن بعيدة عن حدود كردستان، لئلا تحدث من وجودهم في المستقبل القريب أو البعيد مشاكل سياسية تؤدي إلى اقتطاع الجزيرة أو معظمها من جسم الدولة السورية، لأن الأكراد إن عجزوا اليوم عن تأليف دولتهم، فالأيام كفيلة بأن تنيلهم مطالبهم إذا ظلوا على التناغم والإشادة بقوميتهم».
بمعنى، أن هناك عناصر من الحكومة السورية منذ أيام الانتداب تنظر بعين الريبة لوجود الكرد على المناطق الحدودية، وترى الحل في تغيير البنى الديمغرافية، وهذا ما تحقق في مشروع الحزام العربي أيام حكومة الانفصال قبل قدوم البعث إلى السلطة.
على المستوى الشعبي، كان الكرد مقبولين من الناس، فهم مسلمون منسجمون مع محيطهم، ولا توجد لهم مطالب خاصة، لكن بمجرد أن بدأت المطالب القومية- وأقلّها الحقوق الثقافية- بالظهور بقوة، كان من السهل نقلهم من مسلم ملحق بالـ (نحن) الجماعية (العروبية المسلمة) إلى عميلٍ للآخر الغربي، وكثيراً ما نسمع على لسان العامة عبارة: «كان جاري كردي مافي فرق بيناتنا، وعم نشتغل بالدولة متلنا متلهم، ليش هيك عم يعملو». وحقيقة هذه العبارة الشعبية، تُظهِر النظرة إلى الكردي بمعنى، طالما قبلنا بهم مواطنين في أمتنا وهم وافدون، فلماذا يطالبون بلغتهم ولماذا لديهم مطالب قومية؟.
أما على مستوى الخطاب النظري، فيكاد لا يوجد خطاب عروبي منسجم مع نفسه يُقرُّ بحقوق الأقليات، حتى “ياسين الحافظ” الذي يُذكر دوماً كمثال إيجابي عن الإقرار بحقوق الأقليات، يعتقد بوجود مشروع أساسي للـ (نحن) العربية، والآخرون عليهم أن يوافقوا عليها دون مناقشة، وأذكر إشاراته الناقدة الدائمة للحزب الشيوعي السوري الذي يراه لا يسلك سلوكاً عروبياً، مُرجِعاً السبب إلى ما يسميه بـ «عقد الأقليات».

ولم يسأل “ياسين الحافظ” نفسه لماذا على الأقليات أن تنخرط في مشروعه ومشاريع سواه، وهي لم تُسأل رأيها في تشكيل هذه الدول، يمكن بالمنطق نفسه أن نصف مشروع “الحافظ” العروبي، بعقدة الأكثرية في بناء أمة تعيد أمجاد الحضارة الإسلامية، وكان يثير عجبي ترديد كثيرين من المعارضين الديمقراطيين عبارة “الحافظ” عن عقد الأقليات وكأنها عبارة سحرية، وهي عبارة تروي نصف الحكاية فقط.
مؤخراً، ظهر عددٌ كبير من الكتاب العنصريين (عنصرية علنية، أو مموّهة) الذين جعلوا شغلهم الشاغل البحث عما يثبت أن الكرد عنصر طارئ في المنطقة بأشكال مختلفة، أو إثبات أنهم كانوا مجموعاتٍ من البدو الرحل لم تعرف الحضارة والاستقرار يوماً، وللإسلام الفضل في تمدينهم وإظهار بعض الشخصيات الكردية، وكان لهذا الخطاب على المستوى الشعبي، حضوره في النظر إلى المكون الكردي كعنصرٍ ريفي وافد إلى المدن بحاجةٍ إلى تمدين.
على المستوى الكردي، بدأ بالتدريج يتطور خطابٌ مضاد يقلّل من شأن العرب، فكما ركز الخطاب العربي على الكرد كوافدين، بدأ الكرد بالردّ بأن العرب هم الوافدون من شبه الجزيرة العربية، ويشترك الآشوريون معهم في هذا الخطاب، ورغم أن الأحزاب الكردية لم تورد هذا الكلام في أيٍّ من أدبياتها؛ لكن هذا الخطاب يظهر في كثير من كتابات الكتاب الكرد ورائج بشدة في الشارع الكردي.
ومقابل افتخار العرب الدائم بالحضارة العربية الإسلامية، يشير كثير من الكرد إلى أن العرب كانوا العنصر العسكري البدوي فقط، أما العلماء والمثقفون، فكانوا أبناء الأمم الأخرى الذين لولاهم لما تشكلت الحضارة الإسلامية، ولما تحضّر البدو.
تجتمع هاتان السرديتان في الحطِّ من شأن الآخر، فلا يكفي تحقيره في حاضره، بل يجب أن يمتد الأمر إلى تاريخه، ليتم تصويره همجياً خارجاً عن الحضارة، وهو عنصر طارئ على المنطقة.
لا تؤسس هذه السرديات لحوارٍ حقيقي مشترك، بل للكراهية، وللأسف كان من المأمول أن يشكّل الربيع العربي وانطلاق الانتفاضة السورية، مساراً لحل القضية الكردية، لكن الانزلاق إلى الحرب والتدخلات الإقليمية والدولية، زادا الافتراق وحرب السرديات المتناقضة.
يُحمِّل الكرد الطرف العربي المسؤولية كاملة عن العنصرية المتزايدة في النظرة إلى الآخر، بينما بات للطرف العربي (السني بطبيعة الحال) إضافة إلى سردية الأمة (الأكثرية) سردية مظلومية، بسبب سقوط مئات الآلاف من الضحايا نتيجة القصف الوحشي لنظام الأسد، وما أكثر من يَروْنَ الكرد خنجراً في ظهر الأمة وظهر الثورة.
يقول عالم الاجتماع الفرنسي “إميل دوركهايم”: «حين يعاني المجتمع، يشعر بالحاجة لأن يجد أحداً يمكن أن يعزو إليه ألمه، ويستطيع أن ينتقم لخيبات أمله»*.
لقد عزّز الألم والخوف من المستقبل حرب السرديات، ويبقى الأمل في بناء سردية إنسانية تحقّق نقاط التقاء بين العرب والكرد، وهذا إضافة إلى حاجتها إلى مناخ ملائم يحتاج إلى قوى مدنية وسياسية تمتلك النية الصادقة والإرادة لتكوينها والبناء عليها.
* كونيسا، بيار: صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح، تر: نبيل عجان، ط ١، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت: ٢٠١٥.
31 replies on “الكُرد والعرب في سوريا.. حروبُ السَّرديات تُسمّم العيش المشترك”
… [Trackback]
[…] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 41446 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] There you can find 19540 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Here you will find 64346 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Here you can find 72623 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Here you will find 5356 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Here you can find 65720 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Here you will find 81173 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/الكُرد-والعرب-في-سوريا-حروبُ-السَّردي/ […]
Comments are closed.