هم شباب الثورة إذاً! ولكن، عن أية ثورةٍ نتحدث هنا؟

يحارب “الجوانان” كما يفعل الثوريون، ولكن ليس على جبهات القتال ضد عدوٍ خارجي أو ضد سلطةٍ مستبدة حيث تبدأ الثورات التحررية عادةً، بل ضد أعداءٍعزّل لم يحملوا سلاحاً في حياتهم، لا كمجموعات ولا حتى كأفراد. فهل هم ثوريون فعلاً؟ ألا يفترض بالثورة التحررية أن تكون ضد الآخر المسلح، سواء استخدم هذا الآخر سلاحه أم لا؟

هل كان للثورتين الأميركية والمخملية التشيكية أي معنى لو أنها لم تكن ضد سلطات أو جهات استعمارية مسلحة؟ سلاح الآخر هنا أساسي لتقييم الثورة وتمييزها عن الاحتجاجات أو الاعتراضات التي تعصف بالمجتمعات الديمقراطية والتي مهما بلغت شدتها، لا تغير قواعد اللعبة السياسية (الديمقراطية في هذا العصر)، بعكس الثورة التي تنزع احتكار السلطة للعنف أو تجعل عنفها دون جدوى.

ثم هناك الثورات الكبرى التي حتى إن كانت تستهدف السلطة في بدايتها، إلا أن هدفها الرئيس، وليس فقط مآلها النهائي، هو تغيير الإنسان نفسه. شيءٌ لا يشبه الثورات الزراعية والصناعية والعلمية التي رغم أنها غيرت أنماط حياة الإنسان وطرائق تفكيره بشكلٍ عميق ومحت تلك السابقة عليها إلى درجة أنها لم تعد موجودة إلا من خلال آثارها الجينية في الإنسان، إلا أنها جلبت هذا التغيير خلال فترةٍ زمنية طويلة جداً نسبة لحياة البشر، ولكنها شيءٌ يشبه الثورات الفرنسية والبلشفية والثقافية الصينية والكمبودية والإيرانية التي حملت الإنسان على التغير خلال سنوات معدودة عبر استخدام الأدوات نفسها: الحديد والنار. فهل هم ثوريون بهذا المعنى؟

لا يستبعد أن “الجوانان” يعتقدون، محقّين على ما نخشى، أنهم جزءٌ من إحدى أحدث الثورات الكبرى، وهو تصوّرٌ تؤيده تسميتهم وممارساتهم والمبررات الأخلاقية التي يسوقونها لهذه الممارسات. “ملاحقة الشعب للخونةمثلاً، وهو من نمط ما يدعون القيام به، يشي بانتمائهم لثورة كبرى لا تعترف بالدولة أبداً، إذ لا يجب أن يؤدي مثل هذا الإدعاء إلى تصور أن أحد الخونة يجري في الشارع وتلاحقه مجموعة لا على التعيين من الناس، فما أدرى هذه المجموعة أساساً أن هذا الشخص خائن؟

إذاً، لا بد للمجموعة أن تكون على قناعة مشتركة بخيانة هذا الشخص، وهذا ما يتم بأحد شكلين: إما أن تكون المجموعة عناصر شرطة مكلفين من مؤسسات الدولة القضائية بملاحقته، أو أن يكونوا أعضاء في تنظيم سياسي يمارس نشاطه بغياب الدولة، إما لغيابها الفعلي في حالة الفوضى، أو لعدم اعترافهم بها في حالة الثورة المستمرة. لا يمكن تصنيف “الجوانان” ضمن المجموعة الأولى (الشرطة) بكل تأكيد، ما لا يدع مجالاً إلا لتصنيفهم ضمن المجموعة الثانية، ولكن هل هم فعلاً ضمن هذه المجموعة؟

يطرح هذا التصنيف تناقضاً جوهرياً يشكك في صحة التصور الأساسي حول انتمائهم لثورة كبرى: فالدولة التي لا يعترفون بها ليست الدولة السورية العنصرية والديكتاتورية.. إلخ؛ بل رغم ما ستظهر من اعتراضات نتيجة اعتباطية المصطلح، هي دولة روجآفا الديمقراطية، دولتهم بالتحديد. ما يثير الشك أيضاً في صحة هذا التصور هو سؤال إضافي: ألا يعلم مُجنِّدو “الجوانان” أن إنتاج ثورة كهذه أمر مستحيل؟ ليس لأنها ستعني إعادة إنتاج حكم الإرهاب ومعسكرات الغولاغ والمجاعات المستفحلة كما في النماذج المذكورة آنفاً، فهي بالنسبة لهم في نهاية المطاف نتائج طبيعيةومسار تطهيري ضروري تخوضه الثورة، ولكن للسبب المعاكس تماماً، لأن غياب قدرتهم على إعادة إنتاج واستخدام هذه الأدوات هو ما يمنعهم من إنتاج ثورة كهذه، إذ لا يتمتعون برفاهية غياب وسائل التواصل الحديثة التي تمتّع بها كل من ستالينوماووبول بوت، والتي ستفضح أولى الممارسات الثورية المشابهة ونتائجها في غضون أيام، وتفضّ المبشَّرين بها من حولها بعد أيامٍ أُخَر بما ينقض أحد أهم غايات الثورات الكبرى وهي قدرتها على تصدير نفسها، وأيضاً لأنهم مصابون بـ اللعنةالكردية التي تجرّدهم من غطاء وستفاليا الشهير الذي يضمن لآل كيممثلاً في كوريا الشمالية ارتكاب ما شاؤوا من جرائم ضمن حدود دولتهم بعد تخليهم عن حلم تصدير الثورة، ولكن بشرط أن توجد هذه الدولة أولاً.

ولكن، إذا لم يكن “الجوانان”، كتنظيم عنفي، يمثلون ثورة تحررية كالتي قادتها وحدات حماية الشعب وتقودها (قسد) حالياً لأنهم غير منضمين لهذه القوات بطبيعة الحال، وإذا لم يكونوا ممثلين، عملياً على الأقل، لثورة كبرى مستحيلة عليهم وعلينا إطلاقها، وإذا كان من التهور العلمي تشبيههم بالكارتيلات والعصابات، فما سبب وجودهم أصلاً؟.

يُرغَب لممارساتهم أن تبدو وكأنها تؤدي وظيفة سطحية وهي نشر جو من الخوف بين الشعب، الخوف من الاعتداء عليهم خارج إطار القانون، وإرسال رسالة للأطراف المعارضة بأننا يمكن أن نتسبب لكم بالأذى دون تحمل المسؤولية المباشرة عنه، ولكنه نوع من الخوف العقيم الذي لا يولد خوفاً بعده، وليس أدل على ذلك أكثر من مواجهة متظاهري المجلس الكردي في مظاهرتهم الأخيرة لمقنعي الجوانانوصد ضرباتهم.

إلا أنها في الواقع تؤدي وظيفة أخرى مناقضة لما تود أن تبدو عليه، وهي أنها استعراض عضلات، أو بكلمات أدق، استعراض القدرة على التخريب والاعتداء، وهو استعراض لا يستهدف بجوهره معارضي الإدارة الذاتية، فهؤلاء يمكنهم ببساطة رؤية قسد والأسايش التي تمتلك عضلات أكبر بما لا يقاس من “الجوانان”، كما أن الخشية من التعرض لممارسات خارجة عن القانون لا تنبع من “الجوانان” فقط، بل تنبع بشكلٍ أساسي من مؤسسات الإدارة الذاتية.

إذاً، يستهدف هذا الاستعراض أطرافاً أخرى في الإدارة الذاتية نفسها، ويظهر قدرتها على تخريب تحالفها مع الأميركيين من خلال تخريب صورتها المتسامحة والمتقبلة للرأي الآخر، وإن على مضض، وإحلال صورة مقابلة يبدو فيها حكم القانون مستحيلاً، وذلك إما بسبب وجود خلاف إيديولوجي عميق بين أطراف الإدارة الذاتية، أو على الأغلب، بسبب رغبة أحد الأطراف زيادة أو تعزيز نفوذه ضمن الإدارة، فـ التلويح بالقدرة على التخريب هو أحد الأوراق التقليدية التي تلعب عادة في الصراعات السياسية غير الديمقراطية.

لولا وجود هذا الصراع الداخلي ضمن الإدارة الذاتية والذي بات يظهر للعلن بشكل أوضح يوماً بعد يوم، لكان من السهل على الأسايش تفكيك هذه المجموعة ومنع أنشطتها بسهولة، وبالتالي إيقاف دوامة التعزيز الإيجابي التي تغذيها عدم مواجهة الأسايش لهم بما يؤكد لـالجوانانحقيقة غياب الدولة، وبالتالي تبرر لهم استمرار الوهم بانخراطهم في ثورة كبرى مستمرة، ولكن هذا لا يزيح عن الأسايش مسؤوليتها الأصلية بالحفاظ على سمعة المؤسسة بحماية المواطنين جميعاً من التعرض للاعتداء، خصوصاً إذا كان هذا الاعتداء يحصل تحت نظرهم وأثناء وجودهم.

22 replies on “جوانِن شورشگَر: وهم الثورة الكبرى”

  • 01/25/2025 at 10:52 م

    … [Trackback]

    […] There you can find 10454 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • 01/30/2025 at 3:58 ص

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • 02/06/2025 at 6:30 ص

    … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • … [Trackback]

    […] Here you will find 30978 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • 02/27/2025 at 6:22 م

    … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • 03/04/2025 at 4:50 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • … [Trackback]

    […] Here you can find 75347 more Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • 03/12/2025 at 3:55 م

    … [Trackback]

    […] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • 03/20/2025 at 2:16 ص

    … [Trackback]

    […] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • 04/11/2025 at 10:42 ص

    … [Trackback]

    […] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • 04/11/2025 at 2:02 م

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • 04/18/2025 at 5:09 ص

    … [Trackback]

    […] Here you will find 38243 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • 04/23/2025 at 4:02 ص

    … [Trackback]

    […] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/10/جوانِن-شورشگَر-وهم-الثورة-الكبرى/ […]

Comments are closed.