على ارتفاع نحو مترين، يقف “مسعود جنكو” على لوح “بوندي” خشبي مثبّت على برميلين فارغين، يسهّل عليه عملية التنقّل على جانبي الجدار الذي يرممه، بمساعدة “حمزة إبراهيم” زميله في العمل والذي يُحضّر كرات الطين ويرميها له من الأسفل إلى حيث يقف “جنكو” الذي يلتقطها ويبدأ بضغطها على الجدار ثم تمريرها يمنة ويسرة بواسطة “المسياع“، (وهو أداة معدنية ملساء وعريضة، مثبتة بمقبض خشبي)، حتى تُرقق كرة الطين تلك، ليمرر أخرى ثم أخرى، حتى ينتهي من كامل مساحة الجدار.
عند المرور بقرية “سيحة الصغيرة” جنوب غربي ناحية “تربه سبيه” حيث يعمل فيها “جنكو” و“إبراهيم“، تظهر للعيان العديد من البيوت الطينية المبنيّة من (الطوب– اللَبِن) وتعد من أقدم المنازل التي يعتمدها سكان المنطقة، لتميّزها بالبرودة في الصيف وبالدفء في الشتاء، وقلة تكاليف بنائها وترميمها قياساً للبيوت الإسمنتية، مع وجود عدة دُور مبنية بالإسمنت وأخرى مغطاة أسقفها بألواح التوتياء، لمنع تسرّب مياه الأمطار في الشتاء، والتخلّص من متاعب ترميمها كل عام.
متعة العمل الجماعي
تتكرر أمام أعين المارة، مشاهد ترميم جدران البيوت الطينية أثناء التجوّل في القرى، خاصةً مع نهاية فصل الخريف قبل هطول أولى زخات المطر، إذ تجتمع أفراد كل عائلة للتعاون مع بعضهم البعض.
وفي حال عدم وجود العدد الكافي من الأيدي العاملة ضمن الأسرة الواحدة، يهرع شبانٌ ورجال من القرية في الصباح الباكر لمساعدتهم، تسبقها وجبة إفطار تقدمها العائلة للعمال الجدد الذين يحضرون بكامل لباسهم.
تبدأ عملية تحضير الطين قبل اسبوعٍ من استخدامه في الترميم، وذلك بمزج التراب الخالي من الحصى والشوائب مع التبن، ورشّها بكمية كافية من المياه، ثم خلطها جيداً بواسطة (مجراف– كريك) لمدة ساعة، وتركها على حالها لتجفّ تحت أشعة الشمس.
مهامٌ مختلفة
بعد أيام، ومع قدوم موعد الترميم، يبدأ العمال برش الطين الجاف المُحضّر منذ اسبوع، بالمياه ودحله بأرجلهم بشكل متتالي حتى يصير ليّناً، لكنها بمجمل الحال تبقى أصلب من الصلصال، ثم توزّع الأدوار بين الموجودين، فمنهم من يتولى مهمة تحضير كرات الطين، وآخرون يبدأون بترميم الجدران الخارجية للمنزل.
أما إذا كان سطح المنزل يحتاج للترميم أيضاً، فالمهام هنا تختلف، إذ سيكون من الضروري وجود شخص يملأ السطول البلاستيكية بالطين، وآخران يوصلانها إلى السطح، واحدٌ منهم يأتي بها وهي ممتلئة ليسلّمها لشخصٍ آخر يقف على السلم الخشبي، الذي يوصلها بدوره لشخصٍ آخر يؤدّي المهمة النهائية وهي توزيع الطين على السطح، ثم تمليسه بواسطة “المسياع” ، وهذه المهمة تحتاج لشخصٍ ذو خبرة كـ “جنكو” الذي اعتاد عليها وصارت بالنسبة إليه في غاية السهولة والإتقان.
مهمة “جنكو” وأصحاب الخبرة مثله، تكون أيضاً برش الملح على كامل السطح بعد الانتهاء من تمليس الطين عليه، لمنع نمو الأعشاب، وبالتالي حمايته من تسرب مياه الأمطار إلى سقف المنزل.

اختلاف في طبيعة الترميم
ترميم جدران المنازل تختلف عن أسطحها، فبحسب “إبراهيم” فإن الاختلاف يكون من حيث نوع الطين المستخدم والمدة الزمنية التي تحتاجها الجدران والأسطح.
يقول لـ (شار): «تحتاج الجدران لطينٍ أكثر صلابة عما يُستخدَم في السطح، من حيث مدة تخميره وتحضيره، كذلك الأمر بالنسبة لموعد الترميم، فالجدران قد تتكرر مرة واحدة كل عامين أو ثلاثة أعوام، لأنها أقل عرضة لمياه الأمطار مع وجود مزاريب تمنع وصول المياه إليها، بعكس الأسطح التي تحتاج سنوياً للترميم، في حال لم تكن مغطاة بألواح التوتياء.
كذلك الأمر بالنسبة لاختلاف الأيدي العاملة التي يحتاجها ترميم الجدران والأسطح، يضيف “إبراهيم“: «ترميم جدران المنزل لا يتطلب عدداً كثيراً من العمال، ويكفي وجود شخصين اثنين لينهيا العمل دون الحاجة لآخرين، بعكس الأسطح التي يحتاج ترميمها لمجموعة مؤلفة من 5 أو 6 أشخاص».
دُور السكن ليست وحدها تحتاج للاهتمام والعناية، فحتى الغرف الطينية التي تُستخدم بعضها كحظائر للأبقار والأغنام، وبعضها للعَلَف وأخرى للمونة، تحتاج للترميم، فبعد الانتهاء من الغرف السكنية، يحين موعد وجبة الغداء التي تحضّرها العائلة، ثم التوجّه بعدها لاستئناف العمل وإتمامه مع خيوط المساء الأولى.
يتخلل كل هذا، جلسات متقطّعة للاستراحة واحتساء الشاي، وتبادل الحديث في مجمل المواضيع الحياتية، أغلبها تدور حول الأوضاع الاقتصادية والمواسم الزراعية والاستبشار بهطول الأمطار.
عملٌ محفّز على التعاون
يتميّز المجتمع الريفي القروي بالتعاون والمساعدة بين أبنائه، فكثيراً ما يصدف اجتماع شباب القرية ورجالهاعلى ترميم عدد من بيوت القرية، يوزّعون المهام بين بعضهم، ثم يتبارون ويتسابقون على إنهاء المهمة الموكلة إلى كل مجموعة، وتعتبر من العادات التي كانت بفضلها تقوى أواصر المحبة بين كامل بيوت القرية.
ومع تحوّل الدُور السكنية وحتى حظائر الماشية وغرف المونة إلى هياكل مبنية من الإسمنت، اختفت تلك الطقوس في الكثير من القرى، حتى لو تواجدت في بعضها، ليست بالزخم الذي كان شائعاً فيما مضى.

الهجرة أجهزت على البيوت الطينية
يتحدث “حسين سعدون” 65 عاماً من قرية “كرديم“: «في الأعوام القليلة الماضية، شهدت الجزيرة السورية بشكلٍ عام، تراجعاً كبيراً في عمليات ترميم البيوت، نظراً لقلة الشبان، بسبب هجرتهم إما للمدينة أو لإحدى الدول الأوروبية».
سببٌ أجبر معظم القرويين على «تحويل سطوح منازلهم من طينية إلى إسمنتية أو وضع ألواح التوتياء وتثبتيها بواسطة أعمدة حديدة، لحمايتها من الأمطار والعواصف، والانتهاء بشكلٍ نهائي من ترميمها في كل عام»، بحسب ما أكده “سعدون” لـ (شار).
تكاليف تحويل بيتٍ مبني من الطوب والطين، إلى منزلٍ من البلوك والإسمنت، أو تغطية السطح بألواح التوتياء، باهظة جداً، نظراً لارتفاع مواد بنائها في حال توفّرها، بحسب “سعدون“.
23 replies on “ترميم البيوت الطينية..طقوس اجتماعية مهددة بالاندثار”
… [Trackback]
[…] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 31134 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 75727 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/11/ترميم-البيوت-الطينية-إحياء-طقوس-اجتما/ […]
Comments are closed.