بخطواتٍ متثاقلة؛ تدخل شابةٌ من باب المخيم؛ كشبحٍ أبيض بالكاد يجر خطواته؛ تمسك بأرغفة خبزٍ قليلة وكأنّها أثمن ما تملك؛ تنفض -“سلمى الأحمدأمٌ لطفلين؛ في العقد الثاني من عمرها؛ مهجرَّةٌ من سري كانييه للعام الثالث على التوالي– الطحين من كلّتا يديها ووجهها ووشاحها.

العمل في الأفران والمطاعم, إلى جانب أعمال الخياطة والنسيج وجني المحاصيل الزراعية خلال مواسم الصيف؛ مهنٌ بسيطة أرغمت بعض الفتيات على مزاولتها رغم بساطة مردودها الذي لا يساهم إلاّ بجزءٍ صغير من متطلبات واحتياجات عوائلناتقول الشابة العشرينية لـ شار.

وجدت سلمى نفسها مرغمةً على العمل في إحدى صالونات التجميل الخاصة لتعيل أسرتها بعد أن فقد زوجها المقاتل حياته في المعارك منذ خمسة أعوام. ولكنّها أُجبِرت على حمل صغارها والمغادرة بعد الاجتياح العسكري من قبل الاحتلال التركي لمدينتها، تاركةً في سري كانييه العمل الذي كان يعيلها وأولادها وذكرياتٍ في صالون، ربما لم يعد موجوداً في الأساس.

تتحدث سلمى عن عملها وظروفها الاقتصادية الصعبة: “في الصيف أعمل كما كلّ نساء وفتيات المخيم بالزراعة وجني المحاصيل؛ أما في الشتاء؛ فيخف العمل“.

تضيف سلمى مشيرةً لأرغفةِ خبزٍ قليلة تحملها بيدها؛ عادت بها؛ إضافةً لأجرها اليومي لقاء عملها بأحد الأفران الخاصة في ديرك؛ لتطعم أولادها فـ العمل كرامةيغنيها عن سؤال الناس، بحسب تعبيرها.

تعتبر سلمى نفسها محظوظةً لحصولها على عملها هذا؛ رغم قلة الأجر الذي تتلقاه وصعوبة المواصلات؛ فلا خيار أمامها وليس من السهل تحصيل عملٍ في ظل ظروفٍ معيشيةٍ صعبة وأسواق عملٍ راكدة تخف فيها فرص العمل لفتيات المخيم.

خلف ماكينتها البسيطة، تنهمك أمينة (25عاماً) في أدق تفاصيل خياطة الألبسة النسائية، تحرك يدها بطريقةٍ تُظهر خفتها ومهارتها، وتزداد سرعتها بالعمل مع اقترابها من انتهاء القطعة التي بين يديها.

فالحال في مخيم نوروز لا يختلف عن مخيم واشو كاني الكائن في ريف الحسكة.

حيث تكمل الشابة مسيرة والدتها التي تعلمت منّها كار الخياطة، وتعتبره مصدر رزق أساسي لأسرتها.

أما عن أحلامها التي تحطمت على بفعل الحرب تقول: “حلمي كان أكبر من أمكانيات هذه الماكينة اليدوية الصغيرة؛ لكن الحرب سرقت معها كلَّ شيء.”

تقلب أمينة القماش بكفيها وتجر حسراتها؛ فهي لا تنسى ماكينتهم الكبيرة التي ابتلعتها النيران؛ لا تزال تبكي ذكراها وحلمها ووالدتها بالتوسع بالعمل الذي تبدد وانهار أمام عينيهن، بحسب تعبيرها.

تقول الشابة متسائلة: “هل حال سكان المخيم أفضل مني كي أحصل على دخلٍ مناسب!؟ جميعنا سواء.” ومن ثم تتابع: “والدتي مريضة ووالدي متوفى ولا معيل لها غيري، ولا يعد المردود الذي تجنيه أمينة من مهنتها كافياً لإعالة أسرتها وتكاليف أدوية أمها المريضة حيث تتقاضى أسعاراً تُعدّ رخيصةً تتراوح بين ٣٠٠٠ – ٤٠٠٠ ل.س للقطعة الواحدةمقارنةً بأسعار الخياطين خارج أسوار المخيم.

ولا تتوانى أمينة عن تقديم يد العون لأي صبيةٍ لديها قماشة ركنتها في زاويةٍ مهملة من خيمتها لأنها لا تملك ثمن خياطتها فهي خيَّاطة المخيمومن واجبها تقديم يد العون لمن يحتاجها بحسب وصفها.

نسوةٌ شابات يعاركن قسوة الحياة من أجل لقمة عيشهن؛ فالحصول على اللقمة بات حلماً يحتاج لكفاح.

من جهتها تجلس شاديا العلي شابةٌ في مقتبل العشرينيات أمام خيمتها؛ مستغلةً وجود الشمس ودفئها ومعالم الفرح بادية على وجهها؛ لتعلمها نقشةً جديدةً؛ نجحت بتطبيقها على كنزةٍ قد طُلبت منها من أحد الزبائن.

تتبادل الفتيات الشاباتفي مخيم واشوكانيالخبرات والآراء بالقطع الصوفية التي يقمن بصنعها: “هذا هو باب رزقناتقول شاديا شابة مهجرة من سري كانييه؛ تقطن بالمخيم منذ عامين.

تصف الشابة شاديا لـ شار ما هي الأدوات والمواد الأولية التي يستخدمنها النسوة والفتيات في أعمالهن اليدوية: “خيوطٌ صوفيةٌ ملونةٌ وأداةْ حديدية صغيرة نسميها المخرز” “.

هذا كلّ ما تحتاجه مهنة تلك الشابات اللواتي سرعان ما يحولن الخيوط المحيطة بهن لكنزاتٍ وفساتين وسراويل صوفية وقبعاتٍ وكفوف وأوشحةٍ وأغطية.

ونظراً لغلاء أسعار الصوف تلجأ شادية وصديقاتها للبالة بحثاً عن قطعٍ صوفية كبيرة يقمن بفتحها وإعادة نسجها وبيعها؛ معلقةً بابتسامةٍ خجولة تخبئ وراءها أحلاماً وطموحاتٍ كثيرة: “العمل حياة، رغم قلة المردود، لكنّنا نشعر بقيمة العمل مع الانتهاء من آخر غرزةٍ ننتهي بها من القطعة“.

من بين الأطفال الصغار المنشغلين باللعب مع أقرانهم في القطاع الرابع من المخيم، يركض زياد ابن الخامسة في بهو المخيم بلهفةٍ؛ متجهاً بحماسٍ نحو أخيه؛ حافي القدمين بعد أن لمحه من بعيد؛ وسرعان ما تبدل الحماس لبكاء وصراخ واعتراض لم أستطع تحصيل ثمن الكرة التي يحلم بها أخي منذ أشهر فهناك احتياجاتٌ أهم.”

بهذه الجملة يبرر شقيق الطفل زياد، علي سعدون “19 عاماًمن مهجرّي تل أبيض؛ العائد من مكابس البلوك خيبة أمل شقيقه؛ التي يشعر بمرارتها كلّما تذكر بأنَّ أكبر أحلامه صارت تأمين متطلبات عائلته وتحقيق حلم شقيقه الذي ينام وهو يحلم بالكرة.

4500 ليرة سورية هذا ما يحصل عليّه لقاء عمله المتقطع بالمكابس؛ جراء النقص في المواد الأولية وتحكم أصحاب المكابس بأجرة العامل حسب تعبيره.

لا يملك علي سوى بقايا صورٍ تجمعه برفاق الدراسة في ساحة المدرسة أثناء نجاحهم في الشهادة الثانوية: “كنت سعيداً جداً بنجاحي الذي كان بداية وقوفي على طريق النجاح“.

كان علي يحلم بدخول الجامعة قسم الفيزياء لمحبته للتجارب العلمية؛ فطموحه أن يحقق حلم والده الذي غيَّبه الموت.

يتبادل سند من جهته أطراف الحديث مع جاره ورفيق رحلة النزوح في المخيم.

سند حج أحمد ٢٧ عامامهجَّرٌ من مدينة كوباني في غربي البلاد؛ أفقدته الحرب بيته وقضت على حلمه بمتابعة دراسته بكلية الحقوق لا بد أن أسعى أمام رزق أولادي“.

تقف الدمعة حائرةً في محاجر سند الذي يعمل عتالاً في الصوامع وأثناء المواسم الزراعية: “ظروف الحياة والحرب وحياة المخيمات ورحلة النزوح أجبرتنا على التخلي عن أجمل أحلامنا.”

يعمل سند ورفاقه لساعاتٍ طويلة ويحملون أوزاناً ثقيلة ويجولون أماكن بعيدة لتستقر بأيديهم في أخر النهار 8٠٠٠ ليرة يحتارون بأيِّ وجهةٍ سيصرفونها.

صورٌ ومشاهد توضح بأنّ الشباب ليسوا أفضل حالٍ من الشابات؛ هذا ما يبدو على وجوه العائدين من عملهم خارج أسوار المخيمات بشمال وشرق سوريا حاملين أغراضاً لا تسد حاجة عوائلهم.

يشعر الداخل لمخيمات المهجرِّين في شمال وشرق سوريا بأنّها سوقٌ مفتوحةُ للعمل يتبادل ساكنيها الخبرات والمصالح ويتعلمون ويعلمون بعضهم مهناً وخبراتٍ جديدة؛ لعلّها تسد حاجةً أو تغني من جوع بحسب ساكني المخيمات الذين يعيشون أوضاعاً انسانية يُرثى لها مع موجات البرد والصقيع وغلاء المعيشة.

نوروزو واشوكاني، وغيرها؛ أسماءٌ لمخيماتٍ يقطنها مهجرون؛ ضاقت بأحلام شبابها التي حطمتها لعنة الحرب ليعدوا الأيام أملا في خلاصهم من واقع موغل في القسوة.

23 replies on “الشباب في مخيمات النزوح: أحلام تتحطم أمام قسوة الواقع”

  • 07/05/2023 at 4:53 ص

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 08/03/2023 at 5:19 ص

    … [Trackback]

    […] Here you will find 53164 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 08/12/2023 at 2:27 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 08/30/2023 at 2:25 ص

    … [Trackback]

    […] There you can find 3371 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 03/07/2025 at 3:20 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 03/13/2025 at 4:13 م

    … [Trackback]

    […] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 03/25/2025 at 10:08 م

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 04/10/2025 at 8:01 م

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 04/21/2025 at 4:07 ص

    … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 04/23/2025 at 8:38 م

    … [Trackback]

    […] Here you can find 48233 more Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 04/25/2025 at 2:01 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 05/04/2025 at 3:40 ص

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 05/23/2025 at 11:17 ص

    … [Trackback]

    […] Here you will find 37161 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 06/12/2025 at 9:51 م

    … [Trackback]

    […] Here you will find 87089 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 07/19/2025 at 8:10 م

    … [Trackback]

    […] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 08/06/2025 at 3:34 ص

    … [Trackback]

    […] There you can find 81339 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • 08/18/2025 at 2:05 ص

    … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2022/01/الشباب-في-مخيمات-النزوح-أحلام-تتحطم-أم/ […]

Comments are closed.