بحلولِ المساء، كانت آلاف العائلات تهيم على وجهها صوب بلدة تل تمر، مبتعدةً عن الحدود التركيّة حيث تدور أشرس المعارك في سري كانييه وريفها، لكن تل تمر التي تنتصف المسافة بين مدينتي سري كانييه والحسكة، لم تكن إلا إحدى محطات النزوح بالنسبة للكثيرين من سكان تلك القرى التي دخلها الجيش التركي وفصائل موالية له بزعم تحويلها إلى «منطقةٍ آمنة».
«هؤلاء النازحين لم يتوقّعوا أن تتجاوز المعارك عمق 15 كلم، لذا فضّلوا النزوح بدايةً نحو القرى المجاورة حيث أقاربهم»، وفق ما تقول النازحة “حسنة الأحمد”.
القلق من المجهول، كان بادياً على وجهها، كحال آخرين بدأوا فصلاً جديداً من النزوح، بعد نزوحين سابقين، فيما تأمل أن تكون الحسكة وجهتها الأخيرة.
«سَبَقَهم صيتهم»
تقول “حسنة” التي تخطّت عتبة الستين من عمرها، إن مجموعات من الجيش الوطني الموالي لتركيا «تسللت إلى قرى المناجير وتل جمة والسفح والداودية، ما أدى إلى انتشار الذعر فيها، لتتبعه حركة نزوح في أكثر من 20 قرية في تلك المنطقة».
«الذعر شيءٌ مبرّر» لدى هؤلاء المدنيين وفق ما ترى “حسنة”، ذلك أن «صيت هذه المجموعات كان قد سبقهم».
فقبل نزوحها بأيام، كان فصيل أحرار الشرقية قد أعدم تسعة مدنيين على الطريق الدولي، لدى وصولهم إليه لأوّل مرّة بالقرب من قرية “التروازية”، كانت من بين المعدمين السياسية الكردية “هفرين خلف”.
مجموعاتٌ أخرى من (الجيش الوطني) كانت قد سلبت أهالي قرية “الدادات” 7 كلم شرقي كري سبي، أجهزتهم المحمولة، قبل أن توجّه لهم الإهانات، وفق ما أكد ناشطون من المعارضة السورية، إضافةً إلى سرقة منازل المدنيين في قريتي تل حلاف والعزيزة، فضلاً عن الاعتداء بالضرب على نساءٍ من العزيزية، وفق المصادر ذاتها.
علاوةً على ذلك، وثّقت صور نشرتها وسائل إعلامٍ معارِضة، استيلاء فصيل الجبهة الشامية على منازل الأرمن والمسيحيين في حييّ الشلال والأرمن بـ كري سبي، لدى سيطرة فصائل الجيش الوطني على البلدة.
«صيت» هذه المجموعات وممارساتها دفعت “حسنة” وابنتها العشرينية إلى نزوحٍ ثانٍ من قرية “المناجير” بعد نزوحٍ أول من سري كانييه حيث تسكن، دون أن تعرف ما حلّ بزوجها وبقية أبناءها الذين كانوا قد خرجوا تجاه بلدة تل تمر لشراء بعض الحاجيات، قبل خروجها بساعات.
«خرجتُ من المناجير دون أن أحمل شيئاً، وأنا لا أملك الآن سوى ما ألبسه من ثيابٍ فقط»، بهذه الكلمات تؤكّد “حسنة” أن أصوات الرصاص والقذائف التي سقطت بالقرب منهم، دفعتها كما آخرين للهرب دون النظر إلى ما تركت خلفها من أملاك، كانت «شقاء عمرٍ بأكمله» تقول بحسرة.

عفرين هاجس النازحين الكرد
بخلاف “حسنة” كانت عائلة “حسين” من قرية “الداودية” قد أثقلت حمل شاحنتها، لأن أفراد العائلة يعلمون أن سيطرة تلك الفصائل على قريتهم تعني خسارة كل ممتلكاتهم، وفق ما يرى “شيروان” الأبن الأكبر.
«لم نعد نعلم ما الحل؟ وإلى أين نتجه؟ ومتى سيعود الأمن والاستقرار إلى مناطقنا؟ ربما من الأفضل أن نهاجر هذه البلاد» يقول “شيروان” بتذمّر.
مشهد أرتال السيارات والشاحنات المثقلة بأحمالها من البشر والحاجيات، تعقبها دراجاتٌ وحصاداتٌ وجرارات تجر خلفها أدوات ومعدات زراعية على طريق الحسكة، يوحي وكأن هذه العائلات التي استقلت آلياتٍ متنوّعة، كانت قد استعدّت مُسبقاً لنقل كل ما يستطيعون حمله من ممتلكات.
يقول “شيروان” إن «غالبية هؤلاء النازحين احتاطوا قبل اقتراب المعارك من قراهم، ذلك أن صور النهب والسلب التي رافقت سيطرة هذه الفصائل على مدينة عفرين، لا تزال حاضرة في أذهانهم، ويخشون أن يتعرّضوا للانتهاكات ذاتها التي تعرّض له المدنيون هناك».
تتحدث مصادرٌ عدة، من بينها مؤسسات الإدارة الذاتية عن نزوح أكثر من 300 ألف مدني من قراهم وبلداتهم منذ بدء الهجوم التركي على مناطق شمال وشرق سوريا.
لكن الأرقام مرشّحة للازدياد، ذلك أن الهجمات لم تتوقّف على ريف سري كانييه وكري سبي وعين عيسى، رغم تأكيدات الرئيس الأميركي من أن اتفاق وقف إطلاق النار لا يزال متماسكاً.
وكانت منظمة العفو الدولية قد اتّهمت في الثامن عشر اكتوبر تشرين الأول الماضي، القوات التركية وتحالف المجموعات المسلحة المدعومة من قبلها، «بارتكاب جرائم حرب من بينها عمليات قتل بإجراءات موجزة وهجمات أسفرت عن مقتل وإصابة مدنيين».
وتقول العفو الدولية في تقريرها إن «المعلومات التي جرى جمعها، توفّر أدلةً دامغة حول هجمات دون تمييز على المناطق السكنية، بينها منزل وفرن ومدرسة»، فضلاً عن «عملية قتل بإجراءات موجزة وبدماء باردة بحق السياسية الكردية “هفرين خلف” على يد عناصر فصيل أحرار الشرقية».
وفي ذات المنطقة التي قُتلت فيها “هفرين” كانت عشرات القرى القريبة من الطريق الدولي M4 قد شهدت حركة نزوح واسعة بعد تسلّل مجموعات من مقاتلي “الجيش الوطني” المعارض إلى قرى ليلان والأربعين التي تبعد بضعة كيلومترات عن تل تمر.
على إثرها، نَزَح آلاف المدنيين تجاه مدينة الحسكة، كان من بينهم المئات من المقيمين في مدارس بلدة تل تمر، ممن تركوا مأواهم وفضّلوا الابتعاد عن جبهات القتال.
في “ليلان” إعداماتٌ على الهويّة
على مدخل تل تمر الغربي حيث التقيناه وهو يقود سيارته وإلى جانبه زوجته، يقول “عبدالله حسين” (في العقد الثالث من العمر) إنهما تمكنا من الخروج من منزلهما من قرية ليلان التي يقطنها سكانٌ عرب، بعد تسلل فصائل من الجيش الوطني إليها فجراً، لتجري عمليات إعدام بحق عدد من الشبان بتهمة عملهم في مؤسسات الإدارة الذاتية المدنية أو العسكرية، بينما جرى اعتقالُ آخرين وفق قوائم أسماء كان قد سلّمها متعاونٌ من المنطقة إليهم فضّل تسميته بـ «الخلية النائمة».
فبحسب درجة الاشتباه أو ثبوت التعامل مع الإدارة الذاتية؛ كان القتل نصيب كل من اعتبرته قوائم الخلايا النائمة أنه من قوات الأسايش أو قوات سوريا الديمقراطية، أو من بقية مؤسسات الإدارة الذاتية المدنية، فيما تم اعتقال آخرين من أقارب هؤلاء المنتمين، عدا أن السلب والنهب طال غالبية منازل وممتلكات الأهالي.
في سياقٍ متصل، وثّقت العفو الدولية 20 حالة ترحيل لـ لاجئين سوريين من قِبل السلطات التركية مؤخراً، لكنها تتوقّع أن تكون الأشهر القليلة الماضية قد شهدت ترحيل مئات اللاجئين.
كما تتخوّف المنظمة من نتائج التوافق التركي الروسي، واتفاقية (سوتشي) على إعادة اللاجئين إلى مناطق الحرب دون رضاهم.
حيرةٌ آشوريّة وخوفٌ من المجهول
في الجزء القديم من بلدة تل تمر الآشورية، لا تُخفِ “إيمان كاكو” التي اجتازت عتبة الخامسة والستين من عمرها، خشيتها من سيطرة الفصائل الموالية لتركيا على البلدة، وهي التي سبق لها أن اختُطفت إلى جانب 280 آشورياً آخرين على يد تنظيم (داعش) شباط 2015.
“إيمان” التي استقرّت في تل تمر بعد إفراج التنظيم عنها مقابل فديةٍ قبل نحو عامين، لم تستطع العودة إلى قريتها تل جزيرة مجدداً، بعد أن هجرها غالبية أهلها إلى مناطق أكثر أماناً داخل وخارج سوريا.
تتحدّث العجوز التي ودّعت العديد من أقاربها منذ ذلك الحين، عن حيرةٍ تعتري الآشوريين في الاختيار بين النزوح عما تبقّى من أرضهم مع اقتراب المعارك من قراهم وبلداتهم، وبين ما يمكن أن يتعرّضوا له في حال سيطرت تلك الفصائل على البلدة مع أهلها. لكن الهاجس الأكبر لديها، هو أن تُمارس تلك الفصائل بحقهم، ما تحاشى داعش أن يفعله قبل أعوام.
فوق أكوام الأمتعةِ الملقاةِ على عجل، في سياراتٍ متّجهةٍ صوب مدينة الحسكة، أطفالٌ يُلوّحون لعدسات الكاميرات، وابتساماتهم البريئة تقول إنهم لم يخبروا بعد ما يخفيه النزوح من مآسٍ ومعاناة، فيما آخرون ينظرون بعيونٍ شاخصة، تشي بقلقٍ بالغ، يبدو أكبر من أعمارهم الفتيّة.
27 replies on “انتهاكات (نبع السّلام) تقود النّازحين بعيداً عن «المنطقة الآمنة»”
… [Trackback]
[…] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 23023 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 69217 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 35950 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Here you can find 69756 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Read More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] There you can find 13784 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Read More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 75398 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Here you can find 1684 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/postcsho/ […]
Comments are closed.