في قريةٍ محاذيةٍ للحدود مع إقليم كردستان العراق، أقصى شمال شرقي سوريا، كان من الصعب أن تعلم بأعداد أو أسماء الأشخاص المتوارين في البيوت المتفرّقة، وأنت تنتظر حلول المساء لتتلقّى إشارة المهرِّب أو أحد مساعديه للانطلاق نحو الشتات.

«الطريق ممتاز، ما رح تمشو أكتر من 10 دقايق» هكذا يقول المهرِّب بثقةٍ متناهية، لكن حقيقة الأمر غير ذلك حتماً.

الوصول للقريةِ يحتاج أن تلاحق حافلتك، سيارةٌ تسير بسرعةٍ غريبة بين الطرق الترابية والملتوية، التي من المستحيل أن تسلكها إن كنت مخيّراً، في طرقٍ لا تمر عبر حواجز عسكرية، إلا حاجزٍ واحدٍ فقط.

– لوين رايحين؟ يسأل أحد أفراد الحاجز العسكري والذي تتولّى إدارته قوات سوريا الديمقراطية.

– على قرية سبع جفار، زيارة لأهلنا، يردّ عليه السائق الذي يقلنا نحو الحدود.

– الله معكون

طبّق سائق الحافلة تعليمات سائق السيارة بعد أن تلقى اتصالاً منه: «لا عاد تلحقني، في موطور ناطرك لقدام، امشي وراه».

يشعر الفرد أنه في مغامرةٍ بوليسية من الطراز الرفيع، ورغم التوتر، إلا أنك لا تستطيع إخفاء إعجابك بهذا التخطيط الدقيق لأناسٍ يعيشون بين ظهرانيك وقد تلتقي بهم يومياً في أماكن مختلفة.

شابٌ في مقتبل العمر يرتدي كلابية ويضع على رأسه قبّعةً حمراء، يقودك هذا الشاب إلى  القرية أو ما يمكن تسميتها بـ مركز العمليات، بعد أن تجتاز طرقاً وعرة جداً، يتم استقبالك بشكلٍ جيد، تدخل غرفةً مرتّبة نوعاً ما ونظيفة، يحملون حقائبك ويضعونها أمامك، وتأتي الوصية الأولى والأخيرة من المضيف المهرِّب: «لا حدا يطلع لبرا، في دوريات».

العدوان التركي على روجآفا، الذي بدأ في التاسع من شهر اكتوبر تشرين الأول، من خلال عمليةٍ عسكرية استهدفت مدينتي سري كانييه وكري سبي ومناطق متفرّقة على طول الحدود التركية السورية في قامشلي وديرك وغيرها، تسبّبت بحركة نزوح هي الأكثر قسوةً على أبناء  هذه المنطقة منذ بدء الأزمة السورية ربيع 2011.

فقد تجاوز عدد النازحين إلى الحسكة وتل تمر أكثر من 250 ألفاً، فيما بلغ عدد الفارين لإقليم كردستان أكثر من 15 ألفاً بحسب إحصائيات رسمية من جانب الإدارة الذاتية.

ينتظر المهرِّبون- عادةً- حلول المساء للتحرّك باتجاه السواتر الترابية التي تفصل بين حدود إقليم كردستان وأقصى شمال شرقي سوريا.

250 وحتى 300 دولار هو المبلغ الذي يقبضه المهرِّب مقدّماً، قبل أن تدخل بيته ويغلق عليك الباب الخارجي، لتبدأ ساعات الانتظار حتى حلول المساء وكأنها أيامٌ  لن تنتهِ، يتخلّلها تقديم وجبة طعام ثم الشاي، امرأتان كانتا تقومان بذلك، دون أن يكون هناك أية فرصة لتبادل الحديث مطوّلاً معهما أو معرفة فيما إذا كانتا زوجتاه أم لهما صفةٌ أخرى تخوّلهما العيش معاً في منزلٍ واحد.

“تسعيرة” تهريب واصطحاب الأطفال هي نصف المبلغ للذين هم دون عشر سنوات وكامل المبلغ لمن هم فوق هذا العمر.

تسمع حركةً في الخارج دون أن تستطيع خرق الوصية، أو النظر خلسةً عبر النوافذ لتعرف ما يجري حولك، لكنك بعد أن تصل للطرف الآخر من الحدود، تكتشف أنك لست الوحيد ها هنا، ففي كل بيتٍ في القرية النائية، هناك عائلاتٌ وأناسٌ قد تعرفهم، لكنك لا ولن تراهم إلا بعد حين.

حلّ الظلام أخيراً، يقودك ثلاثةٌ من أدلاء الطريق، من الذين لم تراهم في النهار؛ أحدهم يحمل منظاراً ليليّاً ويلقي نظرة عبره بين الفينة والأخرى والبقية يحملون- مقابل أجرٍ إضافي- حقائب المسنّين أو الذين يحملون أطفالهم ولا يستطيعون حمل حقائبهم.

تلتزم بالتعليمات وتمشي مع أغراضك وعائلتك في الظلام على أرضٍ مُتعرّجة مع مجموعةٍ لا تعرفها، بل لا تراها أصلاً.

في الطريق، وأنت تسير بلا عيون، تستطيع أن تلتقط أنفاس الناس اللاهثة وبكاء الأطفال المكتوم وأوامر هامسة من الدليل الذي دائماً يُظهر عصبيته في وجهنا نحن النازحين الهاربين نحو المجهول.

تنظر حولك، ترى أضواء مخفرٍ ليس بالبعيد، تتساءل: «كيف لا يروننا ونحن مكشوفون بهذا الشكل وعلى هذه الأرض المنبسطة؟.

ثار الدليل فجأة وغَضِبَ، ووبّخ أفراد قافلة اللجوء على بطئهم في المشي وهدد بالرجوع، لكنه تلقّى وابلاً من التقريع ومطالبة بالاستمرار.

45 دقيقة من المشي المتواصل، وأحياناً الركض، كانت كفيلة بأن تجعل العرق يتصبّب منك وأنت تحمل حقائبك وتمسك بيد أطفال العائلة التي ترافقك.

«الساتر لقدام، نحنا خلص دورنا، ورح نرجع» كانت هذه آخر جملة ينطق بها صاحب المنظار الليلي.

لم يكن يتوقّع أحد أن يكون الساتر المقصود هو ذاته الخندق الذي تم حفره عام 2014 من قبل حكومة إقليم كردستان لدواعي أمنية ودفاعية ضد هجمات متوقّعة من تنظيم داعش، بطول 1050 كيلو متراً، يمتد من شنكال عند الحدود العراقية السورية غرباً، وينتهي في شمال محافظة واسط عند الحدود العراقية الإيرانية شرقاً.

في الظلام لا تستطيع توقّع علو وعمق الساتر الذي ستعبر منه، عليك أن تصعد الساتر أولاً ثم تنزل في حفرة الخندق بانحداره الشديد والعميق ثم تصعد مجدداً.

كانت ستكون المهمة شبه مستحيلة لو كان العبور في النهار، ولن تتجرّأ أن تنزل كل هذا العمق وتصعد كل هذا العلو إلا في الظلام حيث لا ترى شيئاً، الظلام وحده يُخفي عنك هول المفاجئة.

عنصران من قوات البيشمركة كانا في الطرف الآخر من الساتر، ونزلا إلى الخندق وساعدوا الأطفال والنساء في الخروج.

بعد أن تجلس قليلاً وأنت بين يدي البيشمركه، تتفاجأ بأعداد الناس الذين سبقوك بدقائق بالعبور وهم متجمعين، وتصاب بالدهشة حين يتم نقلك إلى نقطةٍ عسكرية بالقرب من معبر الوليد، لتجد نفسك بين أكثر من 500 من العابرين للحدود في تلك الليلة لوحدها.

بعد أن امتلأت باحة نقطة الوليد بالنازحين، تم إطعام الناس وتوزيع مياه الشرب عليهم  وتسجيل بياناتهم حتى ساعةٍ متأخّرة من الليل.

لكن العبور بهذه الطريقة المؤلمة كان له ثمن، وليس الجميع كانوا قادرين على اجتياز الامتحان الليلي، رجلٌ خمسيني كُسِرت ظهره في الخندق، فيما وضعوا رجلاً آخر على نقالةٍ بعد أن كُسِرت إحدى قدميه، وآخرٌ مسن أُصيب بالرعشة وصار لا يقوى على الحراك.

في الثانية صباحاً، تم نقل آخر مجموعة لأقرب مسجدٍ هناك، فلا مكان للنوم في النقطة العسكرية.

مع ساعات الصباح، كان الناس المرهقين على موعدٍ مع طاقم للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التي استكملت إجراءات التسجيل، وبعد وجبة الغداء، كان 22 حافلة متوسطة لنقل الركاب جاهزةً لنقل النازحين إلى مخيم (برده رش) والذين صاروا لاجئين بعد ليلةٍ عصيبة.

لم يتوقّع أغلب الداخلين تواً للإقليم، أن يكون المخيم هو مكان مكوثهم، لكن الأمر كان قد بات حتمياً.

عوائلٌ كثيرة من سري كانييه فرّت من المدينة جراء القصف التركي بثيابها فقط، وافترشت العراء في مراكز إيواء النازحين بالحسكة، وانتهى بها المطاف في إقليم كردستان.

أمٌ لثلاثة أطفال كانت تقول بصوتٍ مسموع لأطفالها: «نحن بين أهلنا وإخوتنا، لا تخافوا، مهما حدث فأنتم بأمان ولا يوجد هنا طائرات تقصف بيوتكم وترعبكم».

تصوير: جاندي خالدي

مخيم (برده رش) ومعناه  الحجر الأسود، يقع في بلدة (برده رش) الواقعة في سهل نينوى التابع إدارياً لمحافظة دهوك، ويبعد 70 كم عن مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان و32 كم عن الموصل.

أُعيد تجهيز المخيم الذي أُنشِئ عام 2017 ونزح إليه سكان سهل نينوى  إبّان الهجمات التي تعرضت لها المدينة من قبل تنظيم داعش.

مؤسسة البارزاني الخيرية برفقة الآساييش تستقبل القادمين للمخيم، وبعد تسجيل البيانات مرةً أخرى، يوجهونهم لقاعة كبيرة تفترشها موائد طويلة لوجبة عشاء.

وعلى الرغم من الخدمات التي تقدِّمها هذه المؤسسة والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، إلا أنّ المنظمات الدولية والمحلية العاملة في الإقليم لم تقدِّم برامج لإغاثة ما يقارب 12 ألفاً من اللاجئين القاطنين في المخيم حتى تاريخ نشر هذا التقرير.

لكلٍّ رحلة نزوحٍ عابرة، قصصٌ تبقى محفورةً في وجدان أبطالها، وتضاريس جغرافية المكان الذي تنطلق منه، لكن المفارقة أن تكون القرية التي تلي قرية (سبع جفار) هي التي تخلق هذه القصص والروايات، ونقطة الانطلاق لرحلات شتاتٍ يبدو وأنها لن تنتهِ لدى أبناء سوريا.

30 replies on “نازحون يتحوّلون للاجئين في ساعات الليل الأخيرة.. رحلة العبور نحو المجهول”

  • 06/03/2023 at 1:15 ص

    … [Trackback]

    […] There you can find 33136 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 06/28/2023 at 7:32 م

    … [Trackback]

    […] There you will find 22876 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 07/11/2023 at 2:42 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 07/30/2023 at 5:49 ص

    … [Trackback]

    […] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 01/18/2025 at 4:56 م

    … [Trackback]

    […] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 01/21/2025 at 4:40 ص

    … [Trackback]

    […] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 01/25/2025 at 8:16 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 02/06/2025 at 3:55 م

    … [Trackback]

    […] There you can find 93023 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 02/12/2025 at 6:40 ص

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • … [Trackback]

    […] Here you can find 46748 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 03/16/2025 at 2:33 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 03/19/2025 at 2:13 م

    … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 05/11/2025 at 6:14 م

    … [Trackback]

    […] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 06/05/2025 at 2:20 ص

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 06/26/2025 at 1:58 ص

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 06/28/2025 at 10:03 م

    … [Trackback]

    […] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 07/15/2025 at 10:00 ص

    … [Trackback]

    […] There you will find 26819 more Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 07/17/2025 at 8:33 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 07/30/2025 at 2:40 ص

    … [Trackback]

    […] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 08/03/2025 at 4:47 ص

    … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 08/03/2025 at 6:18 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 08/05/2025 at 4:08 ص

    … [Trackback]

    […] Here you can find 75524 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 08/25/2025 at 3:32 ص

    … [Trackback]

    […] There you can find 87758 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 09/01/2025 at 3:28 ص

    … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

  • 09/10/2025 at 3:11 ص

    … [Trackback]

    […] Read More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2019/11/نازحون-يتحوّلون-للاجئين-في-ساعات-اللي/ […]

Comments are closed.