تتميّز الصّراعات السّياسية في ظلِّ الأنظمة الديكتاتورية في الشّرق الأوسط، بنتيجتها الصفرية، إذ تسعى الأحزاب السياسية في ظل تلك الأنظمة إلى محقِ الآخرين ومَحوهم من الوجود، بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، فيما لو تيسّر لها ذلك. 

بطبيعةِ الحال، قلّما تُصرّح الأحزاب السياسية علناً بأنها تخوض صراعاً صفرياً، صراع بقاء أو موت، مع منافسيها؛ بل تُخفي ذلك عبر طغيان القضايا المصيرية الكبرى على خطابها السياسي، والتي تظهر بالنتيجة مدى الهوة بينها، إلى درجةٍ تخلق شعوراً بعدم إمكانية التعايش، ولو نظرياً، فيما بينها. 

لا شكّ أن هذا الأسلوب في إدارة الصراع، ناتجٌ في جانبٍ مهم منه على الأقل، عن صلابة الأنظمة الديكتاتورية وشبكات فسادها الواسعة، والتي جعلت من إمكانية نجاح أيّ حلٍّ جزئي، مهما كان بسيطاً، مرهوناً بحل النظام بأكمله. 

ورغم أن الأحزاب السياسية في شمال شرقي سوريا ليست استثناءً على القاعدة السابقة من حيث نشأتها، إلا أنها تُعطي مثالاً نموذجياً على المقاومة الشديدة لأيِّ تغييرٍ في طريقة إدارتها للصراع السياسي رغم زوال شبح الديكتاتورية (إلى حدٍّ كبير) في السنوات الأخيرة. 

أحد الأدلة على استمرار الأحزاب السياسية في شمال شرقي سوريا بذاتِ العقلية في إدارة الصراع بهذا الأسلوب، هو سيطرة القضايا المصيرية الكبرى على خطابها السياسي، والبعيدة جداً عن متطلبات الحياة اليومية للمواطنين، جمهورهم المفترض. 

وباستثناء قضيتي التجنيد الإجباري والتدريس باللغة الكردية، كم بياناً صدر عن تلك الأحزاب حول الأزمات المعيشية ونقص الخدمات التي تعصف بالمنطقة بشكلٍ يومي؟ كم خطةً طُرِحت للنقاش لتحسين جودة الخبز في الأفران العامة مثلاً، أو لتأمين وقود التدفئة، أو للوقاية من فايروس كورونا؟ الجواب هو لا شيء تقريباً، رغم وجود 4 تيارات سياسية أساسية في شمال شرقي سوريا وينتظم فيها نحو 40 حزباً. 

بدلاً عن ذلك، تُصرُّ الأحزاب السياسية على اقتصار مواقفها على القضايا المتفق عليها أساساً بين أوسع شريحةٍ من المواطنين. وحتى في هذه، فإنها تختار أكثر القضايا بُعداً عن الحياة اليومية للمواطنين. 

مثلاً، لم تُصدِر أيّاً من الأحزاب السياسية حتى الآن رؤية واضحة حول حرية الإعلام في المنطقة، أو محاربة الفساد والمحسوبية، فيما يعجُّ الإنترنت بعددٍ هائل من البيانات التي تُندّد بالاحتلال التركي وممارساته في عفرين ورأس العين. 

ورغم أن التنديد بهذه الممارسات، هو محلّ إجماع تقريباً بين مواطني المنطقة، إلا أن تلك البيانات تتمكّن من إثارة النقاش، ليس حول القضية التي يتناولها، إنما حول البيان نفسه.

هذا النوع من العمل السياسي المقتصر على معالجة القضايا الكبرى، هو بجوهره استمرارٌ لأسلوب إدارة الصراع التي تطبّعت عليها الأحزاب الكردية في ظلّ الديكتاتوريات السورية المتعاقبة. 

ويعود استمرار هذه العقلية في جوهره إلى أحد سببين (أو كليهما معاً): فمن جهة، قد يكون هذا الأمر ناتجاً عن توفّر قناعة لدى تلك الأحزاب بإمكانية تحقيق مكاسب أكبر عن طريق خوضها هذا النوع من الصراع الصفري، والتي تتحقّق دائماً عن طريق موازنة القوة بينها. 

وبغياب الانتخابات، عداك عن غياب التقاليد الديمقراطية، تصير الموازنة المقصودة هنا هي بين مقدار دعم القوى الخارجية لكل طرف منها، مع ما يصحبها من قوة عسكرية ومالية، يُمكّنها من فرض نفوذها على منطقةٍ ما وانتزاع السلطة كاملة من الجهات المنافسة. وهذا، بالمناسبة، هو إحدى صفات الحرب الأهلية الباردة في الحالة الكردية السورية.

من جهةٍ أخرى، قد يكون اتّباع هذا الأسلوب في إدارة الصراع، هو مجرد تقليد اعتادت عليه تلك الأحزاب، كأيِّ تقليدٍ اجتماعي، ينفصل مع الزمن عن أسبابه المنشئة ويستمر في الحياة بحكم قوة التقليد نفسه. 

ولعلّ لهذا ما يفسره في غياب الديمقراطية ضمن التنظيم الداخلي للأحزاب السياسية في المنطقة والتي تنتهي عادة لإعادة انتخاب ذات الوجوه القيادية في زعامة الحزب وفي الحلقة الضيقة من المكتب السياسي التي لم تشهد تغييرات مهمة منذ تغير الظروف السياسية قبل نحو عقدٍ من الزمن.

تصوير: شفزان محمود

إضافةً إلى أن غياب النقاش الداخلي الجاد بين أعضاء الحزب للخروج برؤى جديدة تتناسب والواقع الجديد، لا يُحوّل الحزب فقط إلى مرآة جامدة تعكس المواقف السياسية لمركزه القيادي؛ بل يطبع عقلية بقية أعضاء الحزب بالأسلوب القديم ذاته في إدارة الصراع، بشكلٍ يجعل من أيِّ تغييرٍ في القيادة تغييراً في الوجوه فقط.

في الوقت نفسه، فإن أضرار اتّباع هذا النمط السياسي لا تقتصر فقط على الإمعان في رجعية الأحزاب التي تتبعه أو على تهيئة الأجواء للحرب الأهلية، إنما تتعدّى إلى ما هو أخطر من ذلك، وهو ابتعاد الناس عن السياسة وعدم الإيمان بقدرتها على إحداث أيِّ تغييرات ملموسة في حياتهم، ما يُعرّض بنية الشعب نفسها للخطر، ليتحوّل (أي الشعب) إلى مجرد مجموعة من الأفراد يقتصر ارتباطهم معاً على وجودهم في حيّزٍ جغرافي واحد، كما هي الحال في سوريا اليوم، وكما أن (حبات البطاطا في كيس؛ تُشكّل كيس بطاطا) بحسب وصف “ماركس” للبنية القروية في فرنسا التي أدت إلى انتخاب “لويس بونابرت” ونشأة الإمبراطورية الثانية.

ولعل هذا هو ما يُفسِّر عدم وجود قاعدة شعبية طبقية للأحزاب السياسية في المنطقة، الموزعة بين المزارعين والتجار، بين المدينة والريف، بين المتعلّمين وغير المتعلمين، بين الفقراء والأغنياء.

تحتاج المنطقة اليوم، إلى جانب الكثير من الأمور الأخرى، لتحوّلٍ في خطاب وبرامج الأحزاب السياسية، تتوقّف فيه عن التّكبّر على احتياجات الحياة اليومية للمواطنين وتسعى لتحسين مستوى حرياتهم وخدماتهم في الوقت نفسه. 

ولتحقيق ذلك، سيتوجّب على أحزاب الإدارة الذاتية تحويل تركيزها من جعل الحياة أصعب على الأحزاب المعارضة إلى جعل الحياة أسهل على مواطنيها، كما سيتوجّب على أحزاب المعارضة، القبول بحقيقة أن الإدارة الذاتية، بكل مساوئها، هي أفضل الحلول المتوفّرة حالياً، وأن محاولة إسقاطها بدل إصلاحها، هي إعادة فعلية للكرد وجميع مكونات المنطقة إلى العبودية والتهجير العرقي والقتل على الهوية.

20 replies on “الصِّراعُ على الخَدمات: تَصحيحٌ للعملِ السّياسي”

  • 06/21/2023 at 4:41 م

    … [Trackback]

    […] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • 08/03/2023 at 2:23 ص

    … [Trackback]

    […] Here you will find 15954 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • 08/26/2023 at 1:37 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • 02/07/2025 at 6:34 ص

    … [Trackback]

    […] Here you will find 25678 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • 03/02/2025 at 10:30 م

    … [Trackback]

    […] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • 03/13/2025 at 4:27 ص

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • 03/20/2025 at 2:23 م

    … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • 03/21/2025 at 9:24 ص

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • 04/13/2025 at 5:50 ص

    … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • … [Trackback]

    […] There you can find 32827 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • 06/15/2025 at 9:19 م

    … [Trackback]

    […] Read More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • 06/16/2025 at 8:04 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • 06/26/2025 at 7:01 م

    … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • 07/03/2025 at 1:49 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • 07/13/2025 at 4:16 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • 07/15/2025 at 7:22 ص

    … [Trackback]

    […] Here you can find 84562 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

  • 08/01/2025 at 3:42 ص

    … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2020/11/الصِّراعُ-على-الخَدمات-تَصحيحٌ-للعمل/ […]

Comments are closed.