يُحيلُنا ما جرى مؤخّراً في “منبج” وما سبقه من اضطراباتٍ في ريف دير الزور وجنوبي الحسكة، إلى الدور العشائري والقبلي الذي يطبع المنطقة، كذلك إلى حالة التشرذم الحاصلة في صفوف القبائل والعشائر في تلك المناطق التي حررتها قوات سوريا الديمقراطية من براثن (داعش).
بالعودة إلى الوراء، ومع بدايات الحراك الشعبي في سوريا عام 2011 ، عوَّل النظام على دور العشائر؛ للوقوف إلى جانبه في مواجهة المحتجين ضده، متعهّداً بتقديم كلِّ أشكال الدعم لهم، وكان ذلك خلال زيارة بشار الاسد لمدينة الرقة في يونيو/ حزيران 2011.
تلتْ تلك الوعودَ، سيطرةُ فصائل المعارضة المسلحة آنذاك على الرقة؛ لتتحوَّلَ هذه المدينة بعدَ ذلك إلى عاصمةٍ للتنظيم الإرهابي (داعش)، ولتُترَك تلك القبائل والعشائر لقمةً سائغة للتنظيم وأفكاره الراديكالية التي لا تُعير أيَّ اهتمامٍ للعشائر أو العِرف القَبَلي أو لموقع الأعيان فيها.
عَقِب تحرير قوات سوريا الديمقراطية (تضم مقاتلين من مختلف قوميات وأديان وإثنيات المنطقة) الرقة وباقي المنطقة من سيطرة داعش، أُعيدَ الاعتبارُ لدور القبائل والعشائر، بعد إشراكها المؤثّر في الإداراتِ المدنية لكل المناطق التي تتواجد فيها.
غير أن النظام السوري وبعد أن أحرز تقدّماً عسكرياً- بدعمٍ روسي وإيراني- على البقعة الجغرافية السورية، عاد إلى ملعب العشائر العربية، محاولاً استثمار الفُرَص في قِطاع العشائر المتواجدة تحت سيطرة قواته، من خلال عقد اجتماعٍ جرى أواخرَ يناير كانون الثاني الماضي، بمنطقة “أثريا” في ريف الرقة، بحضور بعض الشخصيات العشائرية العراقية المعروفة بولائها لإيران، انتهى الاجتماعُ حينها ببيانٍ يعكُس طموحات النظام في المناطق الشمالية والشرقية بهدف السيطرة عليها، هذا الخطاب بالطبع، كان موجّهاً لأبناء العشائر، لتحقيق حاضنةٍ اجتماعية في المناطق الخارجة عن سيطرته.
أدركت تركيا أيضا أهمية دور العشائر في المنطقة تاريخياً وحاضراً، فعقدت اجتماعاً بمنطقة أعزاز، حضرته شخصياتٌ عرَّفتْ نفسَها على أنَّها وجهاء لعشائر عربية، حيث كان حضور “نصر الحريري” في ذات الاجتماع إشارة واضحة على التوظيف السياسي والاستخباري للاجتماع، الذي خرج ببيانٍ يؤيّد دعمَ العشائر للعدوان التركي على مناطق شمالي وشرقي سوريا.
في هذا الموقف، تتوضّح سيادة الانقسامات الداخلية في الهياكل القبلية، موزّعة على مناطق سيطرة مختلفة، إذ اتّسمت المرحلة بظهور زعماء قبائل جُدد، والملفت في الأمر هو ظهور عِدَّةُ وجهاء لقبيلةٍ واحدةٍ موزَّعين على عِدَّةِ مناطقَ مختلفة السيطرة، ولكلٍّ منها موقفٌ مغاير، ما كان سبباً في إضعاف وتراجع تأثير الزعماء القبليين على عشائرهم وبنسبٍ متفاوتة.
يدرك النظام السوري وروسيا وإيران وتركيا، أنه ليسَ باستطاعتهم الاستيلاءُ عسكرياً على المناطق التي حرَّرتها قواتُ سوريا الديمقراطية، كونها حليفٌ موثوق به للتحالف الدولي وتحظى بمصداقية دولية، لمحاربتها الإرهاب في هذه المنطقة وإنشائها إداراتٍ مدنيةً ساهمت بإشراك كل المكونات، إضافةً لكونها قدَّمت تضحياتٍ كبيرة لا يمكن التنازل عنها، ما يزيد من احتمال أن تعمد تلك الأطراف إلى البحث عن وسائل وطرق تكون بديلة عن الخيار العسكري المباشر، لتحقيق النتائج التي تبحث عنها في منبج والمناطق الشرقية عموماً، مثل زرع المحرّضين في الشارع وتحريكهم أثناء ظهور أزمات معيشية أو احتجاجات مطلبية.
هنا نتحدث عن وقائع، كمحاولة ضباط يتبعون للنظام السوري في مطار قامشلو إلى استغلال الحالة المعيشية لدى بعض الأشخاص من أبناء العشائر وتجنيدهم لمصلحتهم، بحسب اعترافات لمتورطين ألقت قوى الأمن الداخلي القبض عليهم، مهمتهم كانت كتابة شعارات على الجدران و أنشطة أخرى هدفها زعزعة الأمن والاستقرار تتوعّد بقدوم النظام السوري وجيشه إلى هذه المناطق.
أما بخصوص دور الجهات الدولية والاقليمية الفاعلة في الملف السوري، كواشنطن والتحالف الدولي، لا تتوفر الرغبة لديها بتغيير الوضع القائم في منبج وعموم مناطق شمالي وشرقي سوريا، لعدة أسباب، أولاً لأن التحالف يرى المنطقة مثالاً ناجحاً على بسط الاستقرار بعد تحريرها من (داعش)، وثانياً لأن إدارة المنطقة تملك مشروعاً سياسياً يتّسم بالفاعلية وتستطيع إشراك مختلف المجموعات الإثنية الموجودة فيها.
كما يعزى ذلك أيضاً، إلى سياسة الإدارة الأميركية برئاسة “جو بايدن” والتي اتسمت بالدبلوماسية والميل إلى تبريد الملفات الساخنة، كذلك العلاقة المتوترة التي اتسمت بها تجاه النظام التركي، بسبب عدة ملفات إقليمية.
فما يؤكده تقرير استخباري أمريكي للبنتاغون هو أن القواتِ الأمريكيَّةَ رصدت أنشطةً للنظام السوري تصب في سياق بناء علاقات مع بعض الشخصيات القبلية المحلية شرقي سوريا لإثارة الاضطرابات وإضعاف علاقة الولايات المتحدة مع تلك القبائل، بالإضافة إلى دعمِ هجمات على قوات التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية.
مثل هذه التقارير تحمل رسائل كبيرة موجهة للنظام السوري وداعميه، وتحملهم مسؤولية زعزعة الأمن والاستقرار في المناطق التي حُررت من داعش.
في ظل تسارع التطورات واحتمال دخول المنطقة على خط التسويات الدولية لا يمكن الرهان في ملف العشائر -كقوة مجتمعية فاعلة- على العناصر القبلية التي تفكر بمصالح شخصية ضيقة، فركوب موجة الخلافات والانقسامات لخدمة أجندات الأنظمة في المنطقة يسهم في زعزعة أمنها ويؤثر في مستقبل أهلها، فعوضاً عن هذا التشرذم يتاح لبعض الشخصيات العشائرية أن تخرج نفسها من “حقل الاستقطاب” الذي هي فيه اليوم، وأن تلعب دوراً محورياً مساهماً في جلب الأمن والاستقرار لأبناء منطقتهم، كما هو حال معظم وجهاء وشيوخ القبائل والذي يتم فعلاً التعويل عليهم ليكونوا “صماماً” يجلب الأمان والاستقرار للمنطقة.
24 replies on “العَشائر العربيّة: حَقلُ استقطاب أم صِمامُ أمان؟”
… [Trackback]
[…] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 21509 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] There you can find 24659 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Here you can find 56938 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Here you can find 31443 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] There you can find 80298 more Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
… [Trackback]
[…] Here you will find 64940 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/06/العَشائر-العربيّة-حَقلُ-استقطاب-أم-صِ/ […]
Comments are closed.