تُعرَف المشاركةُ السياسية بمفهومها الاصطلاحي، بأنها عمليةٌ يقوم من خلالها الفرد بشكلٍ واعٍ وطوعي وفي إطارٍ حر، بدورٍ ما في الحياة السياسية، استناداً إلى شعوره بالمسؤولية تجاه المجتمع.

على صعيد دول ومجتمعات العالم الثالث، ورغم مرور عقودٍ طويلة لنيل هذه الدول استقلالها السياسي، أفرزت أنظمة الاستبداد والعَسكرة، ردّات فعل من الخوف المزمن والجهل بالحقوق وانعدام الآفاق المستقبلية، بموازاة فشل عمليات التنمية الاقتصادية، وبالنتيجة، انتشار حالةٍ من السلبية المطلقة والاغتراب الذاتي تجاه القضايا الوطنية على مختلف الأصعدة. وينطبق السياق السابق بشكلٍ أو بآخر، على منطقة الشرق الأوسط وسوريا، وتجد لها انعكاساتٍ واضحة في المناطق الكردية.

مع انعدام إحصائياتٍ محايدة ومستقلّةٍ عن مدى المشاركة السياسية للأفراد القاطنين في مناطق الإدارة الذاتية، واهتمامهم بالشأن العام، وتأثيرهم فيه أو أهدافهم من المشاركة أو اتساع عضوية الأحزاب السياسية، ومدى تمثيل هذه الأخيرة لشرائح المجتمع وتطلعات أفراده، إلا أن تجربة العقود الماضية؛ أثبتت أن الطريق لايزال طويلاً نحو الهدف المنشود.

كما أن سنوات الثورة وحالة الحكم الذاتي، شبه الفعلي، لم تخلق دافعاً للأطراف الموجودة في محاولة وضع آلياتٍ تعيد الحياة لمبدأ المشاركة، بما يضعها في نصابها الصحيح.

إن محاولة الوصول إلى فهمٍ واضحٍ لمدى فاعلية مبدأ المشاركة في مجتمعات العالم الثالث، تصطدم بمجموعةٍ من المعوقات متعددة الأبعاد، التي لا تقتصر على الجانب القانوني، أي توفّر الأسس القانونية التي تؤطّرها وتمكّنها، فهذه الأسس؛ مكرّسة بصيغٍ وأشكالٍ مختلفة ضمن دساتير الدول وقوانينها- وطالما كانت كذلك- حتى في قوانين أكثر الأنظمة استبدادية، أو الجانب السياسي ومدى توافر الحريات المدنية والمناخ الديمقراطي؛ بل تتعداها إلى عوامل تاريخية واجتماعية ودينية، والتي تتحكّم بشكلٍ أو بآخر في فهم المواطنين حقوقهم وواجباتهم كأفرادٍ فاعلين، ووعيهم لمضامين المشاركة وآلياتها وأهدافها واقتناعهم بفاعليته.

الديمقراطية كحاضنةٍ للمشاركة السياسية:

بالعودة إلى أسباب هذا التصحّر السياسي وضعف المشاركة السياسية للأفراد، يبرز غياب الديمقراطية بالدرجة الأولى، فالنُظم الديمقراطية التي تقوم على المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، تسمح بأوسع مشاركةٍ سياسية للأفراد في مختلف أشكال النشاطات التي تهدف إلى التأثير على القرارات التي تتخذها الجهات المعنية في الدولة، وبعبارةٍ أخرى، إن العلاقة بين الديمقراطية والمشاركة؛ علاقةٌ تفاعلية.

فالمشاركة كمبدأ ديمقراطي، هي حجر الزاوية في إعادة تركيب نُظم السلطة وإتاحة الفرصة للجماعات المختلفة، للمشاركة عبر آليات الديمقراطية، والنظام الديمقراطي يكفل حق المواطنة لمواطنيه، باعتبارهم أصحاب حقوقٍ اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية، يصونها الدستور.

وبغياب الديمقراطية، نكون أمام عيبٍ بنيوي في الآلية المعبّرة عنها، ألا وهي الانتخابات بحسبانها نمط من أنماط عملية المشاركة السياسية، والطريقة التي تضمن حق التداول السلمي للسلطة، وحصول النخب الحاكمة على تفويضٍ شرعيٍ من الشعب بشكلٍ دوري ومنتظم، من خلال عمليةٍ انتخابيةٍ حرة عادلة ونزيهة وسرية.

ويستوجب ذلك التأكيد، بأن الانتخابات يجب أن تُحتَكَم إلى سيادة القانون وخضوع الحاكم والمحكوم له، في بيئةٍ يسودها الأمن والاستقرار وضمان العدالة والمساواة للجميع تحت القانون، وهو ما يعني بالضرورة، تعزيز الشفافية وتفعيل آلياتٍ تُمكّن المواطنين من محاسبة ومراقبة ممثليهم المنتَخَبين، والوقوف على أدائهم وكيفية قيامهم باستخدام السلطات الممنوحة لهم، بموجب التفويض الشعبي الممنوح لهم.

فالشفافية ضمانٌ لاطلاع المواطنين على أداء الممثلين، عبر وسائل شفافة وتزويدهم بالمعلومات بشكلٍ دوري وممنهج بدون أيِّ تزييف، وهو الأمر الذي يتطلّب فتح جلسات البرلمان أمام المواطنين، للحضور أو بثها عبر وسائل الإعلام أو نشر محاضر الجلسات، ومن ذلك أيضاً،  السماح للمواطنين بمراجعة أداء حكوماتهم عبر ممثليهم، كتقديم الاستجوابات والاستفسارات للوزراء من أعضاء الحكومة وغيرها من الأُطَر الدستورية.

تكاد جميع المفاهيم السابقة أن تكون غائبة مطلقاً في الحالة السورية والكردية، فالاستبداد وعَسكرة المجتمع، والأحكام العرفية وقوانين محاربة الإرهاب، لمّا تزل سيفاً مسلطاً على رقاب المواطنين، بحيث لم تتبلور أية بوادر لتأسيس حاضنة إيجابية للمشاركة، مع إمعان جهة السلطة في سياساتها أحادية الجانب، والتي تُشكّك في أسس العقد الاجتماعي والقوانين الصادرة عن الإدارة الذاتية، ونطاق صلاحياتها واختصاصاتها، مع فقدان آليات المحاسبة والرقابة، واللجوء للضغط على وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني وإخراجها عن أدوارها التي ينبغي أن تقوم بها، وخصائصها التي يُفتَرض أن تصطبغ بها وتدافع عنها.

الأحزاب والمجتمع المدني:

تقتضي المشاركة السياسية، وجود أحزابٍ سياسية حقيقية وفعّالة، تؤمن بالقيم والمبادئ الوطنية، وتكون متّفقةً على قبول التعددية واحترام آلية الانتخابات ومآلاتها، وعدم اللجوء للعنف والاحتكار السياسي، سواءً في إطار الحزب أو السلطة.

فالأحزاب، هي الإطار التقليدي والحامل الأقدم للمشاركة السياسية الفعّالة، وسواء كانت في موقع السلطة أو المعارضة، فأنها تستطيع، عبر برامجها وما تطرحه من رؤى وأهداف، استقطاب الأفراد من مختلف المشارب الاجتماعية، للتعبير عن حقهم في المشاركة السياسية في أدنى تجلياتها، المتمثّلة بحق الانتخاب وصولاً إلى حق الترشح وتولي المناصب العامة.

ورغم قِدَم التجربة الحزبية الكردية وصعوبات المخاض التي رافقت تأسيسها واستمراريتها، إلا أن دور هذه الأحزاب في تفعيل المشاركة السياسية للأفراد، هو موضع تساؤل، مع استمرار حالة الجمود والاحتكار السياسي في المنطقة، وعدم توافق هذه الأحزاب على رؤى مشتركة للقضية الكردية في سوريا، واتخاذ بعضها أذرعاً عسكرية لخدمة أجنداتها الحزبية ورفض الاحتكام لصناديق الاقتراع.

وفي أفضل السيناريوهات، فإن المحاصصة السياسية التي يتم التفاوض عليها بين هذه الأطراف، تتجاهل تمثيل الأطراف الأخرى الفاعلة في المنطقة والأحزاب غير المنضوية في المفاوضات، في إنكارٍ تامٍّ لحقها في المشاركة السياسية.

كما تغيب عن الساحة الكردية، دور الأدوات الأخرى غير التقليدية للمشاركة السياسية، والمقصود هنا، جماعات المصالح، كتجمعات أفراد تربطها مصالح مشتركة، وعبر ما تمثّله وما تمتلكه من أدوات للتأثير في السلطات الحاكمة؛ تهدف هذه الجماعات إلى تشريع قوانين أو اتخاذ قراراتٍ تخدم مصالحها، عبر الدخول في علاقاتٍ وتحالفاتٍ مع جماعات المصالح الأخرى، أو التواصل المباشر مع أصحاب القرار، بموازاة تعبئة الرأي العام حول وجهات نظرٍ معينة تتبناها، وهي جماعاتٌ لا نملك بياناتٍ عن حجمها ووزنها وتأثيرها، باستثناء طبقة أثرياء الحرب.

محاولاتُ البناء

يتطلّب تفعيل المشاركة السياسية بالدرجة الأولى، اتخاذ خطوات جادة نحو تنشئةٍ سياسية، ورغم صعوبات تحديد مفهومٍ واضح للتنشئة، إلا أنها تنصرف بالدرجة الأولى إلى تأسيس مجموعةٍ من الأنماط الاجتماعية، التي تكرّس يقين الفرد بمواطنته وحقوقه وواجباته تجاه مجتمعه، وتُلزمه معنوياً باتخاذ ما يلزم من خطوات لتفعيل دوره بالسبل المتاحة، فالتنشئة السياسية تُعدُّ الدافع الأساسي للفرد، كي يساهم في الحياة السياسية لبلده ومجتمعه.

أما اللبنة الثانية في هذا البناء، فينبغي أن تتركّز في إحداث تنميةٍ سياسيةٍ، عبر بناء المؤسسات وتشجيع الممارسات الديمقراطية وتعزيز قيم وسلوكيات المشاركة السياسية، ولضمان أكبر قدرٍ من الفعالية، يتوجّب نشر ثقافةٍ سياسية بخصائص عامة، تربطُ الفرد بقضايا مجتمعه، وتبرز وعيه وإدراكه لدوره في المجتمع.

34 replies on “المُشاركةُ السّياسيّة بين الفاعليّة والجمود”

  • … [Trackback]

    […] There you can find 68382 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 08/29/2023 at 9:28 م

    … [Trackback]

    […] There you can find 148 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 01/20/2025 at 6:30 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 01/25/2025 at 8:06 ص

    … [Trackback]

    […] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 02/06/2025 at 3:31 م

    … [Trackback]

    […] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 02/28/2025 at 1:10 م

    … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 03/24/2025 at 9:30 م

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 03/25/2025 at 4:03 م

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 03/28/2025 at 6:44 ص

    … [Trackback]

    […] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 04/02/2025 at 12:22 م

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 04/04/2025 at 4:30 م

    … [Trackback]

    […] Read More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 04/11/2025 at 1:07 م

    … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 06/18/2025 at 4:41 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • … [Trackback]

    […] Here you will find 80354 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 06/26/2025 at 6:51 م

    … [Trackback]

    […] Here you will find 14326 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 07/19/2025 at 5:27 م

    … [Trackback]

    […] There you can find 98764 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 08/03/2025 at 4:05 ص

    … [Trackback]

    […] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • … [Trackback]

    […] There you can find 15757 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 08/11/2025 at 1:17 م

    … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 08/16/2025 at 4:32 ص

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 08/21/2025 at 9:17 ص

    … [Trackback]

    […] There you can find 67960 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 08/23/2025 at 3:11 ص

    … [Trackback]

    […] Here you can find 87016 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 09/04/2025 at 1:54 م

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 09/10/2025 at 4:30 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

  • 09/11/2025 at 2:55 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/07/المُشاركةُ-السّياسيّة-بين-الفاعليّة/ […]

Comments are closed.