تبدو فكرة أن تكون الكتابة عاملاً تغييريَّاً في المجتمعات، أمراً مبالَغَاً به! على الأقلّ في الألفيَّة الجديدة، وثمَّة تجارب عديدة تؤكَّد على هذه النظرة، وهي تجارب باءت بالفشل أثناء محاولات التغيير عبر الكتابة، أي جنس من الكتابة كان، وهذا الأمر يبدو أنَّ له علاقة بالتوجُّهات المجتمعيَّة الجديدة، ففي القِدَم لم تكُ احتياجات الإنسان كثيرةً للغاية، أو بمعنىً أدقّ، كانت الاحتياجات ملبَّاة وبأوراقٍ نقديَّة قليلة قياساً إلى الرَّاهن من الأيَّام، لذا كانت الكتابة أو القراءة بالنسبة للمجتمع، عاملاً تغييريَّاً في الأفكار والتوجُّهات، وهذا المنحى الذي سبق وذكرته من الممكن قياس أثره بكلِّ سهولة من جوانب عدَّة، منها أنَّ الفرد كان بإمكانه أن يعمل ويقرأ في اليوم عينه دون وجود أيِّ ضغطٍ ما، لربَّما الوقتُ كانَ سائلاً آنذاك! أعني كانَ من الممكنِ أن يتمدَّد بسهولةٍ، على النقيض من الرَّاهن الذي دائماً ما يكون فيه قلَّة الوقت هي الذريعة الكبرى لمواجهة أيِّ انتقادٍ لتقصيرٍ ما، ولا سيَّما في الكتابة بالنسبة للكاتب أو القراءة بالنسبة إلى المتلّقي.
فكرة أن تكونَ الكتابة مختبراً للتغيير، شغلَت الكثير من الدراسات الأدبيَّة أو الاجتماعيَّة، ولكن، لا يمكن في هذا الإطار منهجَة الكتابة وتأطيرها وإجبارها على فعل التأثير والتغيير، فالمتلقّي عموماً هو من يمتصّ تلك الأفكار الموجودة في الكتابة ومن ثمَّ يبدأ بآليَّةٍ تلقائيَّة في تطبيق ما قرأه واقعيَّاً، وهذا معتمد على الظروف الصحيَّة التي تحيط بعوالم الكتابة وجهوزيَّة المجتمعات لامتصاص المُدوَّن.
نزيف السوشيال ميديا:
كلَّما تصفَّح المرءُ عالم السوشيال ميديا، عليه قبل كل شيءٍ أن يتلّمسَ دماغه ويحميه، خشيةَ التلوِّث والاستسهال الحًاصَلَين في الكتابة، أيَّا كانت أنواع تلك الكتابة، وهذا ما ركَّزت عليه مقالات كثيرة مؤخَّراً، ففي الفضاء الإلكتروني الذي يتميَّز بمساحة حريَّة فضفاضة، تغدو الكتابة نوعاً من جَلدٍ للقارئ بالمعنى الحرفيّ للكلمة، ما فتح المجال أمام الجميع أن يصبحوا كٌتَّاباً فعليَّاً، في ظلّ سرقاتٍ لا يمكن الاستدلال عليها إلَّا بعد فوات الأوان، فبكبسة زرٍّ واحدة تغدو الكتابة المسروقة أمام أنظار آلاف النَّاس، وقد تتحوَّل الأكذوبة إلى حقيقة مباشرةً، أي أن تغدو المادة الكتابيَّة المسروقة فعلاً لصاحبها الذي سرقها! دون أيِّ رادعٍ أو مانعٍ أخلاقيّ على الاٌقلّ.
اختلاف الفكرة:
كميَّات هائلة من الأوراق البيضاء، أو تلك التي على جودةٍ عاليةٍ تؤمِّن اليُسر والرَّاحة للعين البشريَّة آنَ القراءة والكتابة، تُصرَف! ولكن في المقابل لا وجود لأيِّ تغييرٍ يمكن ذكره، أو على الأقلّ قياسهُ وتلمّسهُ.
أسبابٌ عدَّة أسمعها حول الابتعاد في الرَّاهن الذي نعيشه ولا سيَّما في سوريا، منها الوضع الاقتصادي للبلاد، أو التهديد الدَّائم بالنزوح أو الموت، ومنها أيضاً تأزُّم الأوضاع الاقتصاديَّة التي تحول دون قدرة الفرد السوريّ على اقتناء كتابٍ، أو أن يكون بإمكان السوريِّ الكاتب أن ينشرَ كتاباً له، إن أسقطنا الأسباب الاقتصاديَّة لبداهتها وعدم جدوى الخوض فيها أصلاً، من الممكن الخوض على الطرف الآخر في الجذب، أعني جذب المجتمع للقراءة، فلا وجود لآليَّة ومنهجيَّة يمكن مدحهما في ما يخص موضوع جذب الناس إلى القراءة، سواء من ناحية العناوين أو المحتوى المكتوب المنشور ورقيَّاً، فكل ما يدور الآن في الكتابة هو حديثٌ عن الرَّاهن أو مجرَّد فكرة اجترار الماضي منذ سنواتٍ عشر وأكثر منصرمات، أي لا وجود لفكرة تبلور الحل، أو على الأقلّ تُجانب الواقع الحقيقيّ، فلا يهمُّ القارئ المحلي أن يقرأ قصصَ العنف والتطرُّف والقتل، بقدر ما يهمَّهُ الخوض في تفاصيل الحلول الممكنة للتغيير، التغيير في كل الجوانب، مجتمعيَّةً كانت أم سياسيَّة أم اقتصاديَّة على حَدٍّ سَواء، فلا يمكن بناء تغييرٍ ما على قصص العنف والطائرات التي تقصف، هذه مهمَّة الأدب من ناحية ولا شكّ، أعني الإحاطة بقصص وحكايات تَصلُح لأن تكون رواياتٍ أو قصص قصيرة أو غيرها من الأجناس الأدبيَّة، لكن الجانب الأهمّ هو الدور التغييريّ للأدب بشكلٍ عام، دور الفعل الثقافي في قدرته على بناء آليَّة تغيير، ذهنيَّةً كانت أم غيرها وعلى كافة المستويات، الأخلاقيَّة والفكريَّة، فما جدوى عشرات الكتب والعناوين، وعلى الجانب المقابل ثمَّة العشرات من المحتالين واللصوص ومجرمي الحرب؟.
فكرة أن يقوم الأدب بالتغيير المجتمعي، فكرة تبدو رومانسيَّة للغاية، ولكنَّها كانت ذات تأثير حقيقي في حقبة زمنيَّة معيَّنة، حقبة كان فيها التعليم مستقرِّاً، كان الفكر فيه مستقرَّاً، ولم يكن ثمة جوعٌ، جوعٌ إلى كُل شيء، الفكرة اختلفت منذ ذلك الحين وصولاً إلى الآن. حقَّأً هناك رغبة في التغيير بـ/وعبر الأدب والكتابة عموماً، لكن المحاولات الحقيقيَّة ليست موجودة، والموجودة في الوقت الحالي لا تتعدَّى أن تُنعَت بكلِّ قسوةٍ مؤسفة بالـ موضة! كأيِّ نوعٍ من السلع المُستهلَكة.

تدوين الحاضر بوصفهِ وَثباً نحو المستقبل:
كان الأباطرة في الصين القديمة، يحثُّون كتَّاب البلاط الملكي أن يركِّزوا على تدوين أحلامهم، ومن ثمَّ تنسيقها على شكل نصٍّ أدبيٍّ كتابيٍّ مستقلّ ومهمٍّ شكلاً ومحتوىً بحد ذاته، ربما لم تحوي تلك النصوص على بوادرَ تغييرٍ ما، ولكن على الأقلّ حصل هناك تطوُّر بديهيّ في أنواع الكتابة وطرائقها المختلفة، أي ثمَّة تغيير في نهاية المطاف، نحنُ- في تجربتنا خلال سنواتٍ عشرٍ منصرمات- ركَّزنا على أمورٍ تُعدُّ ثانويَّة، وتركنا الأهمَّ بائساً لوحده، يتأمَّلُنا بعينين مشدوهتين وحزينتين غائرَتين في البؤس واللاجدوى، فما الذي فعلته الكتابةُ خلال تلك السنوات الفائتة من تغييرٍ ما؟ أو مثلاً ما المنهجيَّة التي كانت موجودة منذ البدايةِ أصلاً للتغيير عبر الكتابة؟ أسئلةٌ كثيرة تدور في فُلكِ الخراب واللامعنى واللاجواب الأكيد.
تدوين الحاضر مهمّ بالتأكيد، ولكن أسلوب التدوين يختلف بتأكيدٍ مضاعفٍ، لا يمكنُ للماضي أن يكون مرآةً للتغيير، ولكن من البديهيّ أن يكون الحاضرُ مرآةً أكيدة وحقيقيَّة للتغيير الحقيقيّ، الحاضرُ بصرامتهِ وقساوته الحازمَتين، الحاضرُ بمشاكله الفكريَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المُدوَّنة حتماً.
في نظرةٍ استقصائيَّة حادَّة، سنلقى انعدام تغييرٍ عبر الأدب أو لنقل عبر الكتابة، أو على الأقلّ لا بدَّ أن نتخلَّى عن الفكرةِ بشكلٍ مؤقَّت، ريثما نجد فعلاً أهميَّة المدوَّن من ناحية الحثّ على التغيير، لا يمكن لمذكَرات متطرِّفٍ أن تمنحني القدرة على التغيير، لربَّما سوف تجعلني أمضي قُدُماً نحو الخطأ، ذاك على سبيل المثال لا الحصر وقِس على ذلك.
عَودٌ على بِدء واقعيّ:
لا يمكن للكتابة أن تؤطَّر في اتِّحاداتٍ! فلعلَّها “أي الكتابة” من أكثر الأمور الحياتيَّة انفلاتاً بالمعنى الإيجابيّ للمفردة، أو على الأرجح عليها أن تبقى حُرَّةً دون أُطرٍ تنظيميَّةٍ مُحدَّدة، فلأجل أن تقوم الكتابة بالفعل التأثيريّ التغييريّ، لا بدَّ أن تكون محرَّرةً من أيِ انحيازٍ فكريٍّ أو أي منحىً يُحدِّدها.
لا يخفى أنَّ الأدوار التنظيميَّة من الممكن أن تنجح في بعض مناحي الحياة في الوقت الرَّاهن، لكن، لن ينطبق الأمر على الكتابة بالتحديد، فالكتابة مجازيَّاً هي أن تصعدَ نحو الجبل وتنظرَ نحوَ الأسفل لترى بوضوحٍ أشمل، وضوحٌ يزيل الغشاوةَ اليوميَّة عن العين وتجعلها ترى ما لا يمكن رؤيته أيضاً مجازيَّاً واستعمال ما تمَّ رؤيته في مناحي التغيير برمَّته.
28 replies on “أنْ تَكونَ الكِتابةُ مُختبراً للتَّغيير”
… [Trackback]
[…] Read More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 45354 more Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Here you will find 87908 more Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] There you will find 48589 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Here you will find 73313 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] There you can find 57367 more Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] There you can find 51502 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/أنْ-تَكونَ-الكِتابةُ-مُختبراً-للتَّغ/ […]
Comments are closed.