لم يكن غريباً صعود طالبان للحكم مرة أخرى، بمجرد انسحاب القوات الأميركية، ربما ما صدم الناس وخلق ردّات الفعل هذه، هو أن أفغانستان لم تكن محطَّ اهتمام أحد، فقد تحوّلت إلى مجرد خبرٍ عابر في نشرات الأخبار طوال عشرين عاماً.

وبالنسبة للمتابع السوري العادي، كان يسمع بها في إطار شجارات اللاجئين الأفغان والسوريين في مخيمات اللجوء!. وفجأة شهدنا على الشاشات، مشاهد حقيقية ذات مسحةٍ سينمائية صادمة: هروبٌ جماعي لمدنيين، ولآخرين عملوا مع القوات الأميركية والدولية، ولأناسٍ يشكّلون أهدافاً محتملة لطالبان، ومشهد الناس المشحونين في طائرات نقل البضائع، ثم تقارير عن اللاجئين الذين يحاولون العبور إلى تركيا.

صحيحٌ أننا نسينا أفغانستان، لكن طوال عشرين عاماً لم تتوقّف معاناة الأفغان، فكان الضحايا يسقطون نتيجة عمليات طالبان من جهة، والقصف الأميركي الذي أودى بحياة الكثيرين من جهة أخرى، ولم يتوقّف تدفّق اللاجئين لحظة.

الجديد هنا، هو عودة طالبان إلى الحكم وإقرار الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بذلك، في انتظار تجاوب الحركة مع متطلبات الحكم بحدّها الأدنى وضمان المصالح الدولية، وتمكّنها من تحقيق الاستقرار في بلدٍ مهدّدٍ بالحرب الأهلية، بلدٌ يعوم على بحرٍ من الإثنيات، وعلى إرث حربٍ عمره ثلاثون عاماً، فإن تمكّنت طالبان من تحقيق الاستقرار وتحقيق المصالح الدولية وضمان لجم المقاتلين الأجانب، فلن يكون غريباً نيلها الاعتراف الدولي سريعاً.

 ألم تكن المملكة العربية السعودية تطبّق أحكام الشريعة بصورتها الهمجية من جَلدٍ وقطع رؤوسٍ وأياد، ومنعت المرأة من قيادة السيارة حتى عام 2018؟ لكنها مع ذلك، حظيت بعلاقات ممتازة مع الدول الكبرى، وأمام إدراك الولايات المتحدة عجزها عن اجتثاث طالبان، لن تمانع بحكمٍ طالباني ملطّف لا يهدّد أمنها بعملياتٍ إرهابية.

لكن حتى لو التزمت طالبان بعدم تصدير نموذجها الإسلامي ودعم الجهاديين، لا يعني ذلك أن تأثيرها العقائدي سيخفت، فهي تمتلك قوة المثال اليوتيوبي المتحقق على الأرض، وهو أحد أعتى القوى الملهمة، فانتصار الثورة الإيرانية (ذات التوجه المذهبي الشيعي)، ألهم حتى القوى الإسلامية السلفية (السنية) في معظم الدول ذات الأكثرية المسلمة.

ويمكن أن نلاحظ ردود فعل الكثير من المسلمين المتعاطفين مع انتصار طالبان، وندرك المأزق العام في هذه الدول، فحتى الذين يُعربون عن رفضهم لنسخٍ إسلامية متشددة، هلّلوا فرحين، وأتحدث هنا عن عامة الناس وعن حركاتٍ سياسية (نحن أمام حضورٍ مجتمعي وحضورٍ على مستوى النُّخَب) وكان أهمها على الصعيد السوري سياسيّون من تنظيم “الإخوان المسلمين” التي يفترض أنها حركة تدعي الاعتدال والقبول بالعملية الديمقراطية، وهو أمر ذو دلالة دون شك!

لا يعني ذلك أن هذه الحركات السياسية متماثلة في تصوّرها لحكم الشريعة مع بعضها ومع طالبان (ولا حتى مع تصوّر الجمهور)، لكن يدلُّ ذلك على أنها جميعاً تريد مجتمعاً تحكمه الشريعة كلُّ حسب تصوّره، أو مجتمعاً تتدخّل الشريعة فيه في السياسة والحكم معاً.

وما يلجمهم جميعاً، هو غياب الإمكانية فقط، ومن نافل القول أن أي مجتمعٍ الشريعة فيه أساس الحكم السياسي، هو مجتمعٌ محكومٌ بنوعٍ من الاستبداد، مجتمعٌ سيقوم بإنتاج مفاهيم ذمّيّة تجاه غير المسلم من أبناء الديانات اليهودية والمسيحية، ومن الصعب أن يُعترَف فيه بأبناء دياناتٍ ومذاهب مثل الإيزيدية والعلوية والدرزية (من ليسوا من أهل الكتاب حسب التعريف الشرعي)، ناهيك عن عدم القبول باللادينيين.

يبدو أن هناك مأزق هويّاتي وعقائدي لدى كثير من المسلمين المقيمين في أوروبا الذين فرحوا بانتصار طالبان، فهم يعيشون في دولٍ ديمقراطية عَلمانية وفي ذهنهم نموذجٌ إسلامي يوتيوبي تداعبه طالبان (وهو بالمقابل في أذهان النخب العربية الحديثة نموذج ديستوبي يثير الرعب)، وهو يشير إلى أنهم مازالوا يعيشون على هوامش مجتمعات اللجوء وبعيدون عن قيمها العامة، ما يعني خللاً في العقيدة العامة التي حملوها معهم من مجتمعاتهم الأصلية، وخللاً في سياسات الاندماج. 

مؤخّراً شهدنا توجّهاً لدى طالبان وأيضاً لدى هيئة تحرير الشام، هو القبول بنشاط المنظمات الدولية- فقد اعتادت هذه القوى تاريخياً على اعتبارها منظمات جاسوسية تعمل لصالح الأميركيين وقوى الكفر- ودعمها قضايا مثل الإغاثة والصحة والتعليم.

هذا التغيير ينمّ عن تفكيرٍ براغماتي أكثر من كونه عقائدي، فقد أدركت هذه القوى أن تحوّلها إلى أنموذج دولة، يتطلب منها تقديم الخدمات الأساسية، ووجود هذه المنظمات سيساعدها على إزالة عبءٍ اجتماعيٍ واقتصاديٍ عن كاهلها، مع بقاء حكم الشريعة الأساسي قائماً، لذلك لا يمكن قراءة هذا الأمر على أنه تغييرٌ مهم، رغم أنه جيد من جهة استفادة المدنيّين منه.

في سوريا، تلقفت هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) خبر انتصار طالبان بالتهليل، وثمّة بُعدٌ عقائدي للموضوع، لكن الأهم، هو أن آمال قادة الهيئة تصاعدت بإمكانية قبول المجتمع الدولي بهم، فما عليهم سوى إحكام قبضتهم على مناطقهم، وتقديم بعض التنازلات للمجتمع الدولي، خاصة إطلاق وعودٍ بإمكانية تحقيق بعض الاستقرار الاجتماعي وتخفيف بعض القيود الدينية، والصبر ريثما يرضخ الجميع للأمر الواقع- وبطبيعة الحال كما هو الحال مع طالبان تبقى كلها تغيّرات كميّة براغماتية لا تلغي حكم الشريعة- عسى ولعلهم يتحوّلون من منبوذين على لوائح الإرهاب إلى أناسٍ مفاوضين على الحل في سوريا، كما حدث مع طالبان. 

ورغم اختلاف المسارين السوري والأفغاني من حيث مدى امتداد هيئة التحرير جغرافياً ومدى تجذّرها في القاعدة الاجتماعية، لكن الأهم أن أفغانستان قدّمت مثالاً فحواه أنه يمكن للمجتمع الدولي القبول بأكثر القوى تشدّداً، طالما أنها توقّفت عن فكرة تصدير الجهاديين وشنِّ هجماتٍ انتحارية. 

ورغم أن هناك قراءات تقول إن هذا درسٌ للأنظمة العربية بأن أميركا ستتخلّى عنها، لكن قد تكون ردحية تقليدية تغلب عليها شعاراتيّة شاعرية رثّة، ترى في هذه القوى مجرد وكلاء للغرب لا توجد أرضية اجتماعيّة لها، وربما تراها الأنظمة العربية بأنه درسٌ لأميركا بعدم قدرتها على التعامل مع الإرهاب من خلال القوة العسكرية، وربما تكون قد استنتجت أنه من الأفضل ترك الأمر لأنظمةٍ قمعية (خاصة أن فكرة التدخل العسكري الواسع النطاق باتت تثير لدى المواطن الأميركي ذكريات سوداء)، وعدم المغامرة مرة أخرى بإسقاط الأنظمة وتسليح القوى المعارضة.

كما أن هناك حقيقة لا شكَّ فيها، وهي فشل الولايات المتحدة في بناء مؤسسات دولة ومؤسسات ديمقراطية في العراق وأفغانستان ينمّ عن أن البنيات الثقافية والسياسية والاجتماعية في هذه البلدان غير ناضجة أساساً، وأن التغيير لا يتم بالقوة العسكرية،  ولا بتأسيس مؤسسات من خلال كتيبات إرشادية ودورات تدريبية للأحزاب وقادة المجتمع المدني.

صحيحٌ أن هناك تجارب أخرى مختلفة مثل تجربة ألمانيا الغربية، والسبب أنه رغم صعود النازية، كانت هناك نُخَب سياسية معارضة للنازية تحظى بقاعدةٍ اجتماعية تعاونت مع الأميركيين  بعد الحرب العالمية الثانية في إعادة إعمار بلدها وبناء الديمقراطية، نتيجة حاجات داخلية وتكوّن وعي اجتماعي جديد (وبالأساس كان هناك نظام ديمقراطي وصل عبره النازيون).

هناك درسٌ تعلّمه كل من سياسيّي الغرب والقوى الإسلامية، فالإسلاميون أدرك معظمهم أنه عند وصولهم إلى الحكم، لا يمكنهم تبنّي نماذج معادية أو صدامية مع الغرب، ومن جهة أخرى، يبدو أن هناك قناعة في الغرب أن التغيير في الشرق الأوسط والدولة ذات الأكثريات المسلمة، ينذر بهزاتٍ اجتماعية وحروبٍ أهلية، تقود لموجاتٍ ضخمة من اللاجئين لا ترغب أوروبا باستقبالها، ولا تعتقد بقدرتها على ذلك (بالمعنى الاجتماعي والسياسي وليس الاقتصادي فقط).

أوروبا تقول صراحةً: لا نرغب بلاجئين أفغان وستتجه جهودنا لدعم دول الجوار لاستقبال اللاجئين، وحقيقةً ربما هذا الكلام يعني التَّمسّك بالأنظمة القائمة للحفاظ على الاستقرار، وربما تلطيف سلوكها ومحاولة القيام بتغييرات تدريجية (وهو أمرٌ من الصعب تحقيقه، بسبب طبيعة هذه الأنظمة وعقليتها) بدل دعم هبات اجتماعية قد تنتهي بسقوط هذه الأنظمة، والدخول في حالة فوضى أو حروبٍ أهلية طويلة.

29 replies on “انتصار طالبان: إلهامٌ للإسلاميين وتغيّرٌ  في مقاربات الغرب للشرق الأوسط”

  • 06/03/2023 at 1:18 ص

    … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 08/07/2023 at 6:25 ص

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 08/19/2023 at 4:26 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 01/24/2025 at 4:15 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 01/25/2025 at 9:12 م

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 02/16/2025 at 3:00 ص

    … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 02/21/2025 at 10:50 ص

    … [Trackback]

    […] Here you can find 81774 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 03/03/2025 at 6:44 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 03/11/2025 at 7:46 ص

    … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 03/12/2025 at 2:10 ص

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 03/12/2025 at 7:09 ص

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 03/16/2025 at 12:29 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 03/28/2025 at 4:05 ص

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 05/30/2025 at 5:05 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 06/01/2025 at 9:36 ص

    … [Trackback]

    […] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 06/08/2025 at 11:12 م

    … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 06/26/2025 at 6:17 م

    … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 06/27/2025 at 10:46 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 07/17/2025 at 2:02 م

    … [Trackback]

    […] There you can find 927 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

  • 07/24/2025 at 6:30 م

    … [Trackback]

    […] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/انتصار-طالبان-إلهامٌ-للإسلاميين-وتغي/ […]

Comments are closed.