يبدأ “ماهر العلي” 52 عاماً صباحاته، بما فيها أيام العطل والأعياد، بجرِّ معوله وأدواتٍ للبناء برفقه عمالٍ مياومين آخرين، لمباشرة عملهم، حيث اعتاد أهالي حيّ الأشورية في قامشلو الاستيقاظ على وطء أحذيتهم في الشوارع المهترئة والمرصوفة بالحجارة والرمل والإسمنت والحديد المسّلح.

يضع “العلي” مابحوزته جانباً ويتحدث إلى “شار” بعينين لم تشبعا النوم، مرتدياً زياً لا يُعرف لونه؛ بسبب تعرضه الدائم لأشعة الشمس: «جرت العادة أن نباشر العمل في رفع مواد البناء إلى الأدوار العليا، بعد الانتهاء من عمليات الحفر التي تتم عبر آليات ثقيلة، ثم البدء بتشييد السناجات والأساسات، وتشييد الجدران وربط الأخشاب لصب الإسمنت لبناء الطابق الذي يليه وهكذا، أحياناً أتساءل متى سأحصل على شقة كهذه التي أبنيها؟». 

أبنيةٌ حديثة دون ضوابط

شهدت حركة العمران في قامشلو منذ أعوام، انتعاشاً كبيراً، من حيث إزالة الدّور الأرضية (الأحواش) وتشييد أبنية مؤلفة من عدّة طوابق مكانها، حتّى يكادّ يندر وجود حيّ في كامل المدينة لم يشهد حركة البناء تلك، والتي عادة ما تترافق بإهمال الوجائب والمساحات الخضراء، وهو ما يتأسف عليه “العلي”، قائلاً: «غالباً ما يصرُّ متعهّد البناء وحتّى من يشتري الطابق الأرضي، على منح المساحة للبناء على حساب الحوش وزراعة بضع أشجار، سبق أن طلبت من أحد المتعهدين ترك بضعة أمتار لزراعة ثلاث أشجار فقط، خاصة أن المساحات الخضراء تكاد تندر في حيّ الأشورية، لكنه رفض بشدة مهدداً بطردي من العمل». 

عملٌ شاق دون حماية

يتحدث “العلي” عن بؤس حالهم وفقرهم وانحسار الفرص والخيارات أمامهم للعمل فقط كمياومين، «هذا العمل خطر وغير مستدام، لكن لا نملك سواه لتأمين قوتنا اليومي، مع ذلك، لا مستقبل ولا ضمان صحي ولا عقود عمل، ولا بيئة آمنة في العمل مع انعدامٍ تام لشروط السلامة والأمان، خاصة في الطوابق المرتفعة».

هؤلاء العمال، ينفّذون أعمالاً جبارة بمقاييس الشخص العادي أو الحاصل على عمل غير عضلي، يقول “العلي”: «نقوم بنقل كميات كبيرة من مواد البناء إلى الطوابق العليا، ونكرر ذلك عدة مرات في اليوم، ومع كمية وسماكة الأتربة والغبار الذي يقتحم حلوقنا وأنوفنا ويتراكم على جباهنا حتى أقدامنا، هل سيدرك المجتمع أية خدمة نقدمها لهم، نعمل نحو /12/ساعة تحت أشعة الشمس لقاء أجرة يومية لا تتجاوز 4$ في أحسن الأحوال». 

وإن كانوا يخطفون ربع ساعة أثناء العمل لتناول الطعام «فإنه لا يتجاوز صندويشة فلافل أو شاورما في أفضل حالات “الجخّ” والصرف، أو لشرب ماءٍ بارد أو كوبٍ من الشاي»، يؤكّد العامل المياوم. 

تصوير: شيرزاد سيدو

دخلٌ زهيد وحقوق ضائعة

وفقاً لذلك، فإن دخل الفرد السنوي للعامل المياوم، لا يتعدّى /1440$/ سنوياً في حال كان لديه عمل يومي دون عطل أو مرض أو ظروف قاهرة، هذه الأجور الزهيدة والمنخفضة تكشف الوضع المزري للأسر والعوائل التي تعتاش من تلك المبالغ. 

هذه المشاكل، تعود إلى الصف الثاني في الأولوية حين نعلم أن هؤلاء العمال وفقاً لـ “العلي”، «لا يملكون أيَّ حقوقٍ تتعلق حول الإعانة الفورية للوفاة، أو راتب تقاعدي، أو صندوق إعاشة وإعانة، وسقوط أي عامل تعني في الكثير من معانيها انتهاء العمل، أي توقف العائد السنوي وصعوبة البقاء في أماكن مغبرة، بسبب حساسية الأعين أو أمراض الرئتين فضلاً عن الروماتيزم، والأخطر هو إصابة أحدنا بإعاقة تسبب ابتعاداً تاماً عن العمل المضني والعضلي، وهو العمل الوحيد المتاح لنا».

لا يحتاج المتابع لحركة المياومين أثناء استراحتهم أو عملهم لمشاهدة حجم الخوف والأرق، وخرائط الحيرة البادية على وجوههم تشرح ببساطة حالهم، ففي فترة المغرب، وحين يبدأ العمال بالانصراف إلى منازلهم، يكون ذوي الوجوه الشاحبة والأجساد المنهكة، يتغرغرون بقليل من الماء للتخلص من ذلك الغبار العالق في حلوقهم وأنوفهم،  بعدها يذهب كلٌ منهم إلى بيته. 

«في الطريق إلى المنزل، ينحصر تفكيري في خزان الماء وما يحتويه من كمية كافية من الماء للاستحمام، في ظلِّ أزمة المياه التي تجتاح المنطقة نتيجة للانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي، وأحياناً لا أجد الماء الكافي وأضطر لتناول الطعام إلى حين امتلاء الخزان بالماء»، يقول “العلي”.

شققٌ مغلقة وأناسٌ دون مسكن

غالبية مشتري الشقق السكنية، مستقرّون خارج المدينة، سواء في دولٍ أوروبية أو تركيا أو كردستان العراق، يوصدون الأبواب والنوافذ، ويستمرون في أعمالهم حيث يقيمون، وتبقى تلك البيوت دون سكن. 

«ماذا سيخسرون لو منحوا بيوتهم لأقاربهم الفقراء إلى حين عودتهم للاستقرار في المنطقة؟، أشرفت على بناء ثلاث شقق لأقاربي المقيمين في ألمانيا، اثنان منهم طلبا سدّ الشبابيك والأبواب بالحجارة والإسمنت، والثالث جهّزت شقته بالكامل، وطلب إرسال المفتاح إلى مكان إقامته في مدينة “بريمن” الألمانيّة»، يوضّح “العلي”.

في الطرف المقابل، حيث تشكّل العشوائيات وأحياء الصفيح، مصدر العمال والمياومين، «تبقى لحظة السكن في البيوت النظامية والشقق المريحة حلماً لنا ولأبنائنا، فمنازلنا المهترئة تفتقد بريق المنازل المأهولة، حتى عدد الغرف القليلة جداً التي لا تتناسب مع عدد أفراد العائلة»، يقول “العلي”.

يجلس العامل الستيني القرفصاء، ويُخرج من جيب بزّته علبة معدنية، ويبدأ بوضع (التّتن) في ورقة دخان ويباشر بلفها بعناية فائقة، وينقض عليها بشراهة، يقول: «ما يحز في النفس، هو أننا نملك هذه العقارات التي نعيش فيها، لكن الحظ يجاورنا؛ فلا أحد مستعد للمخاطرة وبناء عقارٍ من عدة طوابق بالقرب من الحدود السورية التركية، أو في أماكن لا يمكن لقاطنيها دفع مبلغ (200$) للمتر المربع الواحد من مساحة الشقة». 

الطريق من الأحياء التي تشهد طفرة عمرانية إلى باقي المناطق التي لم يصلها بعد التحديث العمراني قصيرة، وبإمكان أية مركبة قطع المسافة خلال /20/دقيقة لا غير، هذه المسافة الضئيلة تنطوي على تفاوت كبير، وتحمل بين طياتها ظروفاً قاسية بكل ما للكلمة من معنى.

23 replies on “عندما تجرّد الأبنيّة الحديثة المياومين من أحلامهم”

  • … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 01/25/2025 at 2:23 م

    … [Trackback]

    […] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 01/25/2025 at 7:40 م

    … [Trackback]

    […] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 03/13/2025 at 8:32 ص

    … [Trackback]

    […] Read More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 03/18/2025 at 3:54 م

    … [Trackback]

    […] Here you can find 26677 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 03/19/2025 at 11:54 ص

    … [Trackback]

    […] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 03/20/2025 at 11:05 م

    … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 05/01/2025 at 2:39 ص

    … [Trackback]

    […] Read More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 05/16/2025 at 10:07 ص

    … [Trackback]

    […] Here you will find 78031 more Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 05/21/2025 at 10:11 م

    … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 06/18/2025 at 6:23 ص

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 06/20/2025 at 11:36 ص

    … [Trackback]

    […] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 06/22/2025 at 4:08 ص

    … [Trackback]

    […] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 06/26/2025 at 11:59 م

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 07/01/2025 at 7:24 م

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 07/23/2025 at 5:38 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

  • 08/01/2025 at 11:07 ص

    … [Trackback]

    […] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2021/09/عندما-تجرّد-الأبنيّة-الحديثة-المياوم/ […]

Comments are closed.