كشفت عملية سجن الحسكة التي نفذها داعش الغطاء عن عدة قضايا ومواقف سياسية تتخطى مسرح العمليات في سجن الصناعة وما يحيط به جغرافيا، إذ رشح عن هذه العملية التي وصفت بأنها محكمة وشديدة التعقيد تفاعلات سياسية  قد تطاول مستقبل الحل في سوريا، رغم الرد الأمريكي السريع على رسالة داعش وذلك عبر اغتيال زعيم التنظيم أبو إبراهيم القرشي بمشاركة ميدانية مع قوات سوريا الديمقراطية. فبقراءة للمشهد الأمني والعسكري يستشف المتابع أن التنظيم كان يخوض صراعاً مع الوقت لتجميع قواه ومحاولة إعادة هيكلة نفسه، وإيجاد مواطىء قدم ينطلق منها للإغارة والتهديد بعد أن خسر وجوده الفيزيائي كـ”دولة خلافة” منذ هزيمته في الباغوز ربيع 2019.

استفاقة التنظيم ومحاولة تحرير بعض قياداته من سجون قوات سوريا الديمقراطية أشعل حماسا إعلاميا غير مسبوق لدى كل من النظام السوري والمعارضة المرتبطة بتركيا، وهذا ما قد يفهم في سياق عداء الطرفين المستحكم لقسد والإدارة الذاتية الذي تعاظم لدرجة رغبة الطرفين في أن تَلحق الهزيمة بالأخيرة أمام تنظيم داعش.

الملفت في مواقف الأطراف الدولية المشاركة في الحدث السوري هو الموقف الروسي الذي تنبأ بانتصار داعش في المواجهة، كما عبرت موسكو عن أسفها لاستخدام التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة للقصف الجوي أثناء ملاحقة الارهابيين، محذرة الولايات المتحدة من استهداف المدنيين. وبالعودة إلى هذا التآلف في المواقف بين مختلف تلك الأطراف والتي شكل داعش مادته وقوامه رغم إختلاف الأجندات السياسية وتناقضها، والذي يمكن فهمه لجهة كونه إجماعا على محاربة الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية “الكردية” والتي تضم خليطا من إثنيات المنطقة وأقوامها يبقى السؤال مفتوحا حول تبعات هذه المواقف على مسار الحل السياسي المتعثر في سوريا، وعلى استراتيجية الحرب ضد الإرهاب.

فالنظام السوري من جهته يحاول دوماً التلويح والتهديد باستعادة كافة المناطق التي تقع ضمن سيطرة الإدارة الذاتية بعد أن فشل في ذلك من خلال الوسيط الروسي، إذ لم يكف إعلام النظام عن تصوير المواجهات على كونها استهدافا للمدنيين وارتكابا لـ ” انتهاكات ترقى إلى جرائم حرب” و”إحداث لتغيير ديمغرافي يطال الأحياء العربية في الحسكة” متناسيا في الوقت عينه  أن العرب من أبناء غويران وباقي المناطق منخرطون في صفوف قسد، وأن نزوح السكان كان بسبب سخونة العمليات العسكرية عدا عن عودة قسم كبير من النازحين في الأيام الأخيرة.

في نفس الوقت يعتقد مراقبون أن النظام  شارك في تقديم التسهيلات لمقاتلي داعش انطلاقا من مربعة الأمني المحاذي لمناطق الاشتباكات متأملا أن تنجح العملية، ليعود هو فيما بعد -وبالتنسيق مع روسيا وبعض الأطراف المحلية الموالية له- لاستعادة السيطرة على المدينة أو على الأقل الدخول في مساومات مع قوات سوريا الديمقراطية.

في موقف مماثل عمدت المعارضة السورية الموالية لتركيا وإعلامها إلى التهليل لهجمة داعش الأخيرة  التي وصفتها بـ”ملحمة غويران”، في حين ترافقت الهجمة  مع زيادة هجمات مايسمى بـ”الجيش الوطني السوري” التابع لتركيا على بقية مناطق قسد بهدف الضغط عليها وتشتيت التركيز عن عملية سجن الصناعة، تزامن ذلك مع تصريحات متكررة من قسد تصف فيها تركيا بأن لها يدا في التخطيط والدعم للعملية انطلاقا من منطقة رأس العين التي احتلتها وأخضعتها لسلطة المعارضة السورية الموالية لها، في نفس السياق كان موقف الائتلاف السوري المعارض متماهيا مع إظهار حالة العداء مع إشارات تستبطن الدعم لهجمة داعش.

موسكو الساعية لتقوية حليفها النظام السوري والطامعة في بسط نفوذها على منطقة تشكل خزانا اقتصاديا لتعوض عبر السيطرة على مواردها تكاليف تدخلها العسكري في سوريا، بدورها كانت تتأمل نصرا سريعا لداعش لأن ذلك يخدم اجندتها في صراعها مع الجانب الأمريكي الداعم لقوات سوريا الديمقراطية، ولكي تلوح بفشل التحالف الدولي في الحفاظ على سلامة واستقرار مناطق نفوذها مما يضعف موقف الولايات المتحدة، ولعل التصريحات الرسمية عكست تلك الأهداف والنوايا وجعلت من روسيا حليفا مؤقتا يرفع رايات داعش ويصفق لـ”انتصاره”.

رغم أن إستراتيجية داعش وعمليته الأخيرة في اقتحام سجن الصناعة في الحسكة تعد عقيدة متجذرة في التنظيم منذ بداية نشوئه، إلا أن هذه العملية الضخمة قد تم التخطيط لها من قبل أكثر من جهة محلية واقليمية نظراً لسهولة ودقة وسرعة التنفيذ مما يعيد إلى الاذهان نوايا حلف آستانا-سوتشي الذي تأسس منذ البداية من أجل عودة النظام لمعظم المناطق التي خسرها على حساب قوات سوريا الديمقراطية وداعمها الأمريكي والاطراف الدولية المتحالفة معها.

هذه الاستراتيجية على المدى البعيد سوف تخدم الجانب التركي والايراني معا بحكم ممانعتهم للمشروع الأمريكي، وبالتالي هي محاولة من هذين الطرفين افشال ما تقدمت به الإمارات، الاردن ومصر والسعودية من محاولة لعودة النظام السوري إلى حضنه العربي من خلال إنهاء أو كبح النفوذ الإيراني والتركي في سوريا بالتوازي مع  خطوات عملية من قبل نظام الأسد، هذا السيناريو لم تعارضه الولايات المتحدة،  بل هو يخدم استراتيجيتها و استراتيجية إسرائيل في تقليص حضور إيران وحليفها حزب الله في سوريا.

في ظل هذا التآلف في مواقف الفرقاء التي أظهرتها عملية داعش الأخيرة بات لزاماً على دول التحالف والجانب الأمريكي بشكل خاص مراجعة حساباتهم في التعامل مع الملف السوري بشكل عام، كذلك ملف داعش ومقاتليه وخلاياه النائمة  في مناطق الإدارة الذاتية، إضافة إلى ملف عوائل داعش وأطفاله و”أشبال الخلافة” والذي ترفض معظم الدول استعادتهم دون أن تساهم في إيجاد حلول لهذه المعضلة وبذلك تتهرب من مسؤولياتها في  دعم قوات سوريا الديمقراطية للقيام بمحاكمة سجناء داعش، هذا عدا عن خطر مساهمة أطراف اقليمية ودولية مثل تركيا وايران وروسيا إضافة إلى النظام السوري ومعارضته في مواجهة إستراتيجية الوجود الأمريكي في المناطق الكردية ومناطق شمال وشرق سوريا والتي قد تفرض حضورا أمريكيا أكثر وضوحا في الاستراتيجيات والأهداف وبالتنسيق مع المشروع العربي في الحد من النفوذ الإيراني والتركي للوصول إلى خطة أكثر شمولاً ونجاحاً في هزيمة داعش وايديولوجيته العابرة للحدود، والانخراط بجدية في إيجاد صيغة حل سلمي وسياسي للازمة السورية عبر شراكة حكم مستدامة، ونظام إتحادي يرضي جميع أطراف الصراع في سوريا.

32 replies on “أحداث سجن الحسكة: عندما يصبح داعش جامعاً للفرقاء”

Comments are closed.

اقرأ أيضا

تقارير و نشاطات مقالات الرأي
المبادرات الشبابيَّة، تجارب للنهوض بالمجتمع
مقالات الرأي
جوانِن شورشگَر: وهم الثورة الكبرى
مقالات الرأي
انتصار طالبان: إلهامٌ للإسلاميين وتغيّرٌ  في…
مقالات الرأي
أنْ تَكونَ الكِتابةُ مُختبراً للتَّغيير

© 2021. All rights reserved by Your Company.