مجيد محمد: يختلف توصيف المعنى الحقيقي لمفهوم السلم الأهلي والعيش المشترك من جماعة إلى أخرى، ومن باحث إلى آخر، وتتضمن جل هذه التوصيفات مفاهيم من مثل «الأمن والأمان، المدينة الفاضلة، الإصلاح، المساواة، القبول …إلخ»، ولكن ورغم الاختلاف في المسميات والوصف على تنوع الثقافات والمجتمعات وأنظمة الحكم السائدة، يبقى الهدف الأساس والجوهري في لفظتي السلم الأهلي والعيش المشترك متقاطعة إلى حد بعيد، تتمثل في الحفاظ على نمط من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وكذلك السياسية الآمنة والمقبولة لدى شرائح ومكونات المجتمع المتمايزة.
مفاهيمياً، يعني السلم الأهلي أن يتمتع الإنسان بالحق الطبيعي له في البقاء على قيد الحياة، وممارسة أعماله الخاصة والجماعية بحرية ومسؤولية، وأن يملك الحق في الحصول على متطلبات العيش وحقوقه بسهولة دون أي خوف من التهديد أو الاعتداء عليه وعلى محيطه الاجتماعي المحلي، ويعني كذلك تمتعه بحق فض الخلافات والنزاعات مع الآخرين من المقيمين في المجتمع بوسائل وأدوات مبنية على أساس الاحتكام لقيم وقوانين وتقاليد واضحة وآمنة متخذة من التفاهم الجوهر الحقيقي لكل ذلك.
في خضم الأزمة التي تعيشها البلاد منذ ما يقارب الثلاث سنوات، تعالت بعض الأصوات المنادية بحماية قيم السلم الأهلي والعيش المشترك في المجتمع السوري المتعدد المكونات الإثنية والدينية، حفاظاً على مستقبل كل الجماعات المحلية وثقافاتها الفرعية المتمفصلة عضوياً مع ثقافة المجتمع الكلي، القائمة في أساسها على قيم القبول والمساواة رغم سيادة نظام قمعي استبدادي لأكثر من خمسين عاماً، إن نظرة متفحصة لواقع المجتمع السوري ما قبل الثورة وبعيدها يثبت بطريقة ذات دلالة ارتباطية، أن السلم الأهلي والعيش المشترك في المجتمع السوري الكلي، وفي مجتمعاته الفرعية المحلية، كان أمراً حاضراً ويملك أرضية أقل ما يقال عنها أنها مناسبة للحفاظ على التماسك، وحد أدنى من الاستعداد الغريزي لقبول الآخر المتمايز رغم التهميش والطمس الذي طال الهويات المحلية الفرعية الذي مارسته سلطة الاستبداد، أرضية مقبولة بالمقارنة مع غيره من المجتمعات المتشابهة من حيث التكوين والتي ما تزال تتخبط في صراع تثبيت حق الحياة وتأكيد حق الجماعة وقبله حق الفرد في التمتع بحياة آمنة ومستقرة.
تمثل منطقة الجزيرة السورية عينة مجتمعية صغيرة لتركيبة المجتمع السوري العامة، من حيث المكونات الإثنية والدينية، وبمراجعة تاريخ السلم الأهلي من حيث كونه أمراً واقعاً في هذا الإقليم الجغرافي، تنحصر ذاكرة المواطن بأحداث قليلة عكرت صفو السلم الأهلي وطرحت تساؤلات كبرى حول مستقبل هذا المفهوم في حماية تلك المكونات وأنماط حياتها وأنساق علاقاتها، إن بدأنا من أكثر الأحداث الحادة التي تعرضت لها المنطقة، فمن الطبيعي الحديث عن أحداث عام 2004 في مدينة القامشلي، حينها راهن النظام السوري بعد الاستفاقة التي شهدها الشارع الكردي نتيجة لتغير طبيعة تعاطي الحركة السياسية الكردية مع الملفات الكردية المحلية من المشاريع الاستثنائية المطبقة في إقليم الجزيرة إلى بناء علاقات مع المعارضة السورية الوطنية في دمشق وحلب، أنه يمكنه اللعب على وتر تأجيج الصراع العربي الكردي والذي نجح في زرعه بين مجموعات محدودة من الطرفين، لكن ما حدث شكّل مفاجأة لحسابات القادة الأمنيين المسؤولين عن تلك الأحداث، لم يتورط العرب في الأحداث بالشكل الذي كان مخططاً له، إنما تورطت الأجهزة الأمنية وفروع المخابرات وبعض الجماعات المدعومة منها في قمع الانتفاضة المحلية، والتي استهدفت حقوق الكرد في الحياة كحق طبيعي ومجرد للمرة الأولى في سوريا، اجتمعت العشائر العربية بممثلين عن الحركة السياسية الكردية ووجهاء محليين ووضعت صيغ لتفاهمات أكثر عمقاً تقف في وجه محاولات أخرى محتملة قد يقدم عليها النظام القائم على العقلية المخابراتية، وفرض حالة من الشقاق بين مكونات الأقاليم السورية المحلية.
تمثل هذه الحادثة زاوية مهمة جداً لفهم طبيعة علاقات السلم الأهلي والعيش المشترك التي تختارها الجماعات المتمايزة لنفسها، لتحافظ كل منها على مسافة آمنة في حال حدثت أي تصدعات أو خروقات فجة تهدد الحقوق الطبيعية لكل منها. لكن لماذا كانت هذه الحادثة وطريقة تعامل المكونات معها أمراً مفاجئاً للنظام، مرد ذلك يعود إلى فهم عميق لأدبيات العيش والسلم الأهلي انطلاقاً من أنماط الحياة والعلاقات بين كتل المجتمع المحلي والأفراد، فبناء إنسان سوي لا يعتدي على حقوق أو ممتلكات الآخرين، يقتضي بالضرورة حصوله على احتياجاته الضرورية من تعليم وعلاج ومأكل ومشرب …إلخ، وفي ظل غياب جل هذه الاحتياجات في المجتمع السوري عامةً ومجتمع الجزيرة خاصة، كان من المفروض وفقاً لحسابات النظام أن تدخل المنطقة في آتون صراع إثني طويل، يشكّل بداية لتوغل النظام وبعمق أكبر هذه المرة في الإقليم، لكن تظافر مفاهيم السلم الأهلي والعيش المشتركة المنتجة محلياً والمستندة على إرث طويل من العلاقات المتداخلة بين المكونات قطعت الطريق على هكذا مخطط.
مع بداية الثورة السورية، مثّل ملف عرب الغمر (الذين استقدمهم نظام الأسد الأب من محافظة الرقة بعد بناء سد الفرات إلى المنطقة وتوزيع أراضي مواطنين كرد عليهم تعويضاً عن أراضيهم التي غمرتها مياه السد) قضية ذات أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية تهدد السلم الأهلي والعيش المشترك في المنطقة، لكن وطوال السنوات الثلاث، لم تتسم الأصوات الداعية لإعادة حقوق المواطنين الكرد إليهم بإرجاع أراضيهم الموزعة على عرب الغمر لهم مرة أخرى بالعدائية، على العكس تماماً، فأغلب الحلول التي اقترحتها منظمات وهيئات وحتى أحزاب سياسية تعاملت مع القضية بطريقة تعكس تجذر مفاهيم السلم والعيش المشترك، بعيداً عن التشنج وصيغ الإجبار التي مارسها النظام، على الرغم من هشاشة النظام في هذه المنطقة والذي قدم نفسه فيها على أنه الضامن لبقاء عرب الغمر فيها، ولم تسجل حتى اللحظة أي حادثة اعتداء من الطرفين على خلفية هذه القضية.
إن صيغ السلم الأهلي والعيش المشترك بين مكونات المجتمع المحلي في منطقة الجزيرة قد يمثّل مثالاً يحتذى به في باقي الأقاليم السورية، على الرغم من بعض الحوادث التي لا تتجاوز كونها أحداث فردية يقدم عليها بعض الأشخاص غير الأسوياء اجتماعياً، ويبقى الأمر الأكثر أهمية بعد أن أخذ الصراع السوري في باقي المناطق منحى يهدد صيغ السلم والعيش المشترك، أن منطقة الجزيرة ورغم التنوع الكبير في تكوينها الاجتماعي حافظت على بارقة أمل للسوريين جميعاً، بأن هناك من السوريين من لهم القدرة على الاستمرار جنباً إلى جنب رغم حدّة الصراع ومآلاته المدمرة وآثاره الكارثية.
31 replies on “الجزيرة: «نموذج للتعايش والسلم الأهلي»”
… [Trackback]
[…] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Here you can find 19898 more Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Here you can find 71496 additional Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Here you will find 82921 additional Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Info here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Here you can find 55275 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Here you will find 53175 additional Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/05/الجزيرة-نموذج-للتعايش-والسلم-الأهلي/ […]
Comments are closed.