جوان تتر: دمشق، 13\5\2014 ، الساعة الآن بالضبط الثامنة صباحاً …. دمشق 13\5\2008، الساعة الثامنة بالضبط …. فرقٌ شاسعٌ بينَ التاريخين، يتغيَّرُ المكان بفعلٍ ساحرٍ من جنَّةٍ إلى خراب، لا المكانُ هوَ المكانْ ولا الشوارعُ الضيَّقَةُ في باب توما ومدحت باشا التي بدأت تضيقُ وتضيقْ، هيَ الشوارعُ ذاتَها التي كانت تضجُّ بالغرباءِ أكثرَ من أهالي دمشقَ في الماضي القريب.
على طول الدرب الواصلِ إلى الكنيسة المريميَّة، أُناسٌ يسيرونَ وهم يتلمَّسونَ رؤوسهَم ويودِّعونَ في أفئدتهم أطفالَهُم، والأحجارَ التي يرونَهَا كلَّ يوم خيفَةً من قذيفَةٍ تهوي على كلّ شيء وعلى لا شيء، لتتحوَّلَ كلَّ الأمور إلى ذكرى في غضونِ لحظاتٍ، تعلوهَا الغبار وصيحاتُ الأطفالْ والباعَة الذين لا يتورّعونَ عن الرّكضِ إلى مكانِ القذيفة لإحصاء المتاعب والألَمْ. فالسوريّ اعتادَ على الألم والمشاهد المؤلمة منذ بداية هذا الموت اليوميّ، تخبُّطٌ لا يعلُم أحد متى ستكونُ النّهاية، نهايةَ هذا التخبُّط.
في الصباح وأنا أنزلُ إلى مكان العمل، وطول فترة انتظار الميكروباص الذي يقلُّني أشعرُ في داخلي وكأنَّني مُراقَب حتَّى من الحجَر الرَّاقِدِ جَمَادَاً، يفكِّرُ في منبتي ومكاني الأصليّْ، سيَّاراتٌ تمرّ عابرَةً ليستغرِقَ السَّائقُ في ملامحي متكهِّنَاً هوّيتي ثمّ للحظاتٍ يتبدَّلُ المشهَد لأتفحَّصَ أنا أيضَاً وجهه ونمرة سيَّارته متكهِّنَاً أنا الآخَر هوّيتهُ !! لومٌ خفيٌّ متبادَل بينَ كلِّ الوجوهِ العابرَة، حيطَةٌ وحَذرٌ وتوجُّسْ وأنتَ تعبرُ الشوارعَ المُزدحمَة في منظرٍ تخالهُ للوهلَةِ الأولى مُمَثَّلَاً ببراعةِ مخرجٍ سينمائيّ سينطق بعد هنيهَةٍ وهو ينهضُ من خلف شاشَةِ المُراقبة كلمتَهُ التي ستنهي المشهد stop .
الإقامَة، تلكَ هي النّقطَةُ الأساسيَّة والركيزةُ التي تقضُّ مضجَعَ الوافدِ إلى دمشق بدعوى الشفاء من مرضٍ عُضَال، أو استكمالَاً لعَمَلٍ معلَّق بسبب انقطاعِ الطُّرقِ المؤدّيَة إلى العاصمَة دمشق، حيثُ أنَّ البيوتَ ارتفعَت أسعارها بأربعَةِ أضعافِ عَمَّا كانَت عليه في الماضي، فَقديمَاً كانَ الوافدُ إلى دمشق لا يهتمُّ لأمر الإقامَةِ سواءٌ أَكانَ وافدَاً زائرَاً لأيَّام، أو وافدَاً زائراً لأشهرٍ طويلَة، كنتُ أُبصُرُ الكثيرين من الأصدقاء في الماضي وهُم يتأبطون أذرُعَ الفتيات الحسناوات في شارعٍ من شوارع العاصمة دمشق، وسيتكَرَّرُ المشهدُ حتماً وأنتَ تعبرُ أيَّ شارعٍ لا على التعيين، أمَّا الآن فلن ترى غير وجوه النَّازحينَ والمهجَّرين من الرَّصاص الذي لا يرحَم. في ساحةِ المرجة سترى الكثيرينَ من هؤلاء ليلاً؛ كائناتٍ تتوسَّدُ الألَمَ والذكريات الطيّبة عن مناطقهِم وبيوتِهِم المدمَّرة، ونهاراً سينقلبونَ إلى كائناتٍ تشحَدُ وتتسوَّلُ كُلَّ شيءْ. تذمُّرٌ من البردِ المحيطِ بهم والمتسلّلِ إلى أجسادهِم التي نَحُلَت بفعل الشوق والذكريات الأليمة.
يقول أحد الطلَّبة (يلماز أمين) من الدرباسيَّة، وهو من الطلَّاب المستجدّين عن دمشق الحالية: «دمشق لا تعني ليَ الآن سوى موطِن للدراسَة، وممرّ لدخول المستقبل، ولم تعد تعني لي كما كنتُ أتوقَّع قبلَ المجيء والتصوّر الذي كنتُ أتصوّرَهْ، دمشق فقط بوَّابة لدخول مستقبلٍ آخَر لا أعي شكلَهُ ولا نهايتَهُ، غُبارٌ يحيطُ بالمشهدْ»!!
في إحدى مواقع تصوير الدراما التلفزيونيَّة يتوقَّفُ ميكروباص ضخم، يقلّ فئاتً عمريَّة مختلفة أغلبها في مرحلة المراهقة وهم الكومبارس الذينَ يتفقّونَ مع المسؤول عن هؤلاء البشر الطيبين على التسمُّرِ أمام عدسة الكاميرا وتنفيذ تعليمات المخرج المنفِّذ لقاء مبلغ زهيد، سترى الحُلم بعينهم، مراهقونَ من مناطقَ سوريَّة مختلفة لجئوا إلى دمشق بعد أن دمِّرَت بيوتهم وقراهُم، وتبعثرت موارد رزقهِمْ وضاقَت بهم سبلُ العيش ليمتهنوا مِهَنَاً لم تكُنْ بالحسبان، يقولُ أحدهم: «أنا من حلب، دُمّرَ بيتي وماتت والدتي بطلقةٍ طائِشَة فاضطررتُ للهربَ إلى دمشق بعدَ أن تحوّلتُ إلى مشرَّدٍ يشبه المشرّدين في الروايات الفرنسية، التي كان يقرأها لي أخي الطبيب، الذي لا أعلَمُ عنه شيئاً منذ عامٍ كامِل، أزاولُ مِهنَاً كثيرة، أبيعُ المناديلَ الورقيَّة في ساحة البرامكة، وأحيانَاً أبيعُ الزهورَ للعاشقين في شوارع العاصمة دمشق، والآن أنا هُنَا أُزاولُ مهنَةً لم أكُن أتوقَّع يوماً ما أن أُزاولها وهي مهنة الكومبارس، وأن أرى الفنانينَ الذينَ كانوا بالنسبةِ إليَّ حلماً من الأحلام، تدمعُ عيناهْ ويسألُني: وأنتَ أستاذ من أينَ أنتْ؟ هَل دُمِّرَ بيتُكْ؟ لا أجيبهُ سوى بغصَّةٍ تجزُّ عُنقي»، تمرُّ الأيَّامُ في دمشق كما جرت العادة، عملٌ وهموم معيشة سوى أنَّ الفرقَ حاليَّاً هوَ وعورةُ المكانِ وتوحُّشهْ، ليسَ المكانُ هو ذاته كما كان في الماضي يقولُ أحد الطلّاب القدامى: «لَم تعُدْ دمشقُ كما كانت عليه، لا يمكنني المكوث خارجَ المنزل الذي استأجرتهُ لأكثرَ من ساعاتٍ بعد حلول الظلامْ، لا لأنّ الأوضاع الأمنيّة مضطربة فهذا أمرٌ قد اعتدنا عليه، ولكن لأنَّ الحواجزَ لن تتركَنَا نمضي بسلام وذلك أمرٌ مزعج جداً».
تنتهي الحياةُ فعليَّاً في دمشق عند الثامنة مساءً، ليسَت نهايَةً للعيش ولكن نهايةُ التجوِّل؛ سوى الناس العائدينَ من أشغالِهِم منهكينَ من التَّعَبِ، لتبدأ حياةُ العتمةِ لساعاتٍ تَطولُ أو تَقصر، تجوّلْتُ ليلاً في أحياءَ عديدة بدمشق هيَ نفسها التي كنتُ أجوبُها قبل سنواتٍ من الراهن الأحمر، الفرقُ هو الحذرُ والتوجُّس وأشياء أُخرى، الأمانُ المفقود كليَّاً والذكريات القديمة التي تجوبُ أُفقَ الذكرى مثل برقٍ ليعيدَ الذهنُ كلّ الأشياء التي كانت موجودةً فيما مضى من الأيَّام إلى ساحَةِ الوعي، يقول سامر وهو من سكَّان جرمانا: «القذائفُ هي ما نغَّصتِ عيشنا في هذه المدينة، ففي فترة معيّنة تلكَ التي اشتدَّت فيها القذائف لم نكُن نستطيعُ الخروجَ من منازلنا نهاراً إلا بصعوبةً بالغة، ونحنُ نحمي رؤوسَنَا من أمطار الموت التي كانَت تنهالُ علينا من حيثُ لا نعلَمْ، خوفٌ وقلقٌ يجوبانِ الشوارعَ مع المارَة على نفس الخطِّ»، يستدركُ سامر قائلاً وهو يتأمَّلُ ساحة السيوف: «الآن الحياة نوعاً ما طبيعيَّة وأصوات المدافع اعتدنا عليها لأنَّها أصبحت بمثابَة موسيقى مرافقة للحياة اليوميَّة التي نعيشها، ما نخافهُ ليسَ الموتَ المجاني؛ وإنَّما هذا الغدرُ الذي لا يمكنُ لأيِّ إنسانٍ أن يتحمَّلهْ، نحنُ نموتُ لأجلِ لا شيء»!!
في ركن الدين هذهِ المنطقة التي تحوي أغلبيَّة كرديَّة، هم خليطٌ من الأكراد الذينَ ولدوا وترعرعوا في دمشق، وأكرادٌ وافدينَ إليها من القامشلي وبقيَّة المناطق الكرديَّة، في هذه المنطقة يتنّفسُ القاطنونَ نوعَاً ما أكثر من سكَّان زور آفا أو (وادي المشاريع) كما يُطلَقُ عليها، لا وجود إلا للقليل من الحواجز في ركن الدين، على العكسِ تماماً من زور آفا حيثُ التشديدُ الأمني الغريب على الرغم من أنَّ المنطقتين تضمُّان أغلبيةً كرديَّة!! ربمَّا القربُ من مناطقَ أمنيَّة هو من يقرر درجةَ التشديد، تبقى الرغبةُ في الحياة وتحقيق الأحلام السلاحَ الأقوى الذي يتسلَّحُ بهِ السوريُّ الآن كيَ لا ينجرَّ خلف اليأس، فهو ينسى أو بالأحرى يَتَنَاسَى الأوضاع الأمنيَّة السيّئَة كي يستمرَّ في عيشه ويحلَم، هكذا تغدو الأوضاعُ في دمشق وتسيرُ الأيَّام كما لو أنَّ ماردَاً يُلاحِقُ النَّاسَ في الشوارعِ والأزقَّة.
18 replies on “دمشق Stop”
… [Trackback]
[…] There you can find 30970 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Here you can find 64868 more Information on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Find More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Info on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Read More Information here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Read More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
… [Trackback]
[…] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2015/02/دمشق-stop/ […]
Comments are closed.