بقيت في ما سمّي «خدمة عسكرية إلزامية» سنة وتسعة أشهر، كان ذلك قبل ثماني سنوات، لم أشهد خلالها أيّة عمليّات قتاليّة، مع أنّ الطّيران الإسرائيليّ رُصِدَ مرّتين فوق المطار الّذي مكثت فيه، ودخلنا حينها في استنفار استعراضي، بقيت فيه مضادات «فولغا» و«بتشورا» المتهالكة – كعادتها خرساء مستكينة، كما بقيت ذاكرتي معجونة بصور الدمار، والجثث، وكل متعلقات الحرب قبل أن أراها، أو أكون – على الأقل – قريباً منها!!.

عاينتُ الحرب بتفاصيلها الحقيقية، بعد أن بلغت الثالثة والثلاثين، خلال تواجدي في الغوطة الشرقية بريف دمشق، عبر تنقلاتي المكثّفة بين دمشق، وحرستا، ودوما، ومناطق ومحافظات أخرى، إلى أن دخلتْ في أواخر 2012 –بكل ثقلهالمدينتي الصغيرة سري كانييه (رأس العين)، والتي تحوّلت ميداناً لإرادات دولية وإقليمية، وداخلية متضاربة، إذ نالها القصف، وعمّت جولات القتال الضّاري حواريها، وأزقّتها، وانهالت على سطوح منازلها القذائف، وسقط من أبنائها عديد الضّحايا.

ترهقني الآن حشود الصّور التي عاينتها عن قرب، أو وصلت إلي مصوّرة، أو على شفاه أصدقاء يشاطرونني تجارب مماثلة، بيد أني أعتبر نفسي مختلفاً عنهم أو عن معظمهم، إذ كنت مهووساً في طفولتي بالتقاط تفاصيل الحروب، ومتابعاً نهماً لصور الأسلحة والجنود بلباسهم الميداني، والأرتال، والخنادق، وآثار القصف، ومشاهد الجثث الملقاة في الأزقة التي عجّت بها الصحف، والمجلات، والكتب، التي كان أبي – رحمه الله – يملأ بها رفوف مكتبته في ثمانينيات القرن المنصرم وتسعينياته.

كنت أقلّب بتأنٍّ وشغف لا محدودين صفحات عشرات من نسخ المجلّات الفلسطينيّة واللبنانيّة إبّان حرب لبنان، وكتباً تحوي ملفّات عن فظاعات تشاركت في استنساخها أنظمة المنطقة وطغاتها المتباهين بالقمع، والقتل، والسحل، والتعذيب.

أمضيت ساعات متواصلة في القراءة والمعاينة والتهجئة أحياناً، يتملكني هوس الاكتشاف لأواصل التحديق فيما تحتويه تلك المطبوعات من أهوال، ربما كان أهلي غافلين عما شغفت به، أو راق لهم هدوئي بين الكتب، مفضّلين ذلك على سباحتي في غبار ملعب الكرة الترابي القريب.

لم أكن في عمر يجعلني أتذكر صبرا وشاتيلا التي جرت فصولها في حزيران 1982، إلا أن التذكير بها وبأحداث أخرى لاحقاً، على صفحات الجرائد، والمجلات، وعلى شاشات التلفزيون، وعرض صور المجزرة المرعبة المتضمنة مئات الجثث المنتفخة من حر الصيف، جعلها تفصيلاً مهماً في ذاكرة طفل تغريه أشكال سبطانات المدافع أكثر من أفلام الكارتون، ولعب الدحل، وباقي ألعاب الصبية العنيفة.

أمضيت وقتاً ليس بالقصير أحدق في صورة فتاة مقنوصة في حرب بيروت الطويلة، ضمن مجلة بالأبيض والأسود أعيد تتبّع خيط الدم السائل من عنقها المنتهي ببركة متجمعة خلفها قرب الرصيف، أقارنها بالطفل فاغر الفم الذي خطفه الموت بالكيماوي في حلبجة، دون أن تسيل منه نقطة دم واحدة، وتوصلت إلى استنتاجات صبي صغير في الابتدائي مازال يذكر جيداً تزامن اغتيال مفتي لبنان مع تأنيب والده له لأنه قصر في «مذاكرة الرياضيات»، والسبب أنه استعاض عن فتح الكتاب المدرسي بتلقّف مجلّة في غرفة الضيوف استقرت على غلافها صورة شيخ يبدو عليه الوقار اسمه صبحي الصالح.

أمشاط الرصاص على صدور البيشمركة، وزوبعة القوميين السوريين خلف صورة سناء محيدلي، وبوسترات خليل الوزير، وشارب معصوم قرقماز، ودبابات ساحة تيانمين، وعمامة أحمد شاه مسعود، وبنادق الفدائيين الفلسطينيين، ورموز وإشارات وأعلام وأسماء ومتابعات لبرامج ما بعد الظهيرة على التلفزيون العراقي، الذي كاد أن يلفظ من شاشته الجثث المتساقطة على جبهات الحرب مع إيران الخميني، لتغدو مشاهدتها متعة لا تقل عن «السندباد»، و«فلونة»، و«السيارة العجيبة»، كل هذا لم يتح للذّاكرة استظهار جدول الضرب كاملاً، أو أن تكتفي بأرشفة أهداف فريق البرازيل وحفظها عن ظهر قلب مع أسماء محرزيها.

في مراهقتي بتّ أكثر دراية بالتّفاصيل، وصرت اشتري الجرائد بنفسي، وأقرأ عن حرب البلقان، والتوتسي والهوتو في رواندا، وخذلان العالم لـسربرنيتشا، وحصار سراييفو، والمقابر الجماعية، والقصف الروسي المركّز على غروزني، والاقتتال بين الأحزاب في كردستان العراق، سبق كل هذا إعدام دكتاتور رومانيا المرعب تشاوشيسكو على شاشات التلفزيون رمياً بالرصاص بعد محاكمة عاجلة.

رجال ونساء وأطفال يجلسون على شرفات منازلهم المتدرجة على الجبل الذي تقبع فوقه أزقة (حي الأكراد)، يراقبون الحوامات التي تناور في سماء دمشق الجنوبية، مطلقة صليات رشاشاتها وقذائفها على الضواحي، مشهد ذكرني بما كان يعرض يومياً على نشرات أخبار التلفزيونات التركية، حين كانت قاذفات الجيش التركي تقصف بشراسة، وانتظام جبال قنديل وشمزينان طيلة عقد التسعينيات وما بعده، ذكرتني أيضاً بالحمم المصبوبة على قرى الجنوب اللبناني من طائرات الجيش الإسرائيلي، حين كنت أتتبّعها واجماً على نشرة الـثامنة والنصف على التلفزيون السوري، وفق تصادف يومي مع وقت العشاء.

ربما ساعدتني هذه الذاكرة المشحونة بالدّم والدمار والهوس بمفردات الحرب وصورها، أن أبدو متوازناً أكثر في ظروف عصيبة عشتها، كما لا أخفي أن أحاسيسي تبلّدت بعض الشيء تجاه المآسي والمحن، التي أصبحت زاداً يومياً، وممراً إجبارياً لحيوات البشر، المهدورة على أيدي قناصين عابثين، أو طيارين يفرغون براميل الحقد السوداء على رؤوس الأطفال.

الآلاف من البشر الراغبين في حياة أفضل، والساعين إلى تغيير ما حولهم، أو الطامحين للهدوء والسكينة، أردتهم الحرب من فوق صخورها الصلدة، وكنا نحن ممن لا زال يحظى بفرصة العيش الفيزيقي– شهوداً على مصائرهم، نعاينها واقعاً ملموساً، أو صوراً، وفيديوهات، أو عبر مشافهات وأحاديث قد لا تعدو كونها مسامرة تترافق بأكواب النسكافيه.

الخرائط التي أنهكت التاريخ والجغرافيا هي من تصنع الحروب، وربما الحروب أيضاً تصنع الخرائط

تمرّ القصص محدِثة أثراً عميقاً تارة، وقد لا نكترث بها تارة أخرى، بفعل الانشغال، أو الاعتياد، أو بفعل ذواكرنا المشحونة بتجارب مرهقة أو مستحيلة التوقع ضمن حالة اعتيادية، إذ إطلاق الرصاص علينا أثناء التظاهر، أو المرور بتجربة اعتقال، كان حوادث لها وزنها في أعرافنا وتقييماتنا، لكنها باتت الآن نثاراً من ذكرى، نستجملها وتحلو في مخيال من لديه القدرة على الكتابة والتعبير، نستصغرها أمام جسامة حوادث أخرى، كإزالة أحياء كاملة من الوجود، أو محاصرة مدن ليقتات سكانها على ما تعافه النفس البشرية، أو تحوّل مدن وبلدات وقرى أخرى خرجت من سيطرة النظام، إلى وضع تستولي فيه قوى ظلامية على مقاليد الأمور فيها، لتعيد إنتاج القمع، والقهر العاريين، تحت بواعث كـ«تحكيم شرع الله في الأرض» أو «معاقبة المرتدين».

الخرائط التي أنهكت التاريخ والجغرافيا هي من تصنع الحروب، وربما الحروب أيضاً تصنع الخرائط، وتحوم حول موائد القتل، والرصاص والدم، صور، ووثائقيات، وتدوينات، تروي قصصاً وتجارب وتفاصيل عن ملايين البشر، تلهب الذاكرة الجمعية والفردية لشعوب ارتهنت لقرارات الحكومات والساسة المتنازعين، المحتكمين لشهوة عمياء تنشب مخالبها الصماء في ذواكر البشر قبل مصائرهم.

30 replies on “ذاكرة مثقلة بالحرب”

  • … [Trackback]

    […] Read More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 07/14/2023 at 12:39 م

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 02/26/2025 at 1:55 م

    … [Trackback]

    […] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 03/01/2025 at 6:22 ص

    … [Trackback]

    […] Read More here to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 03/03/2025 at 11:00 ص

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 03/11/2025 at 6:32 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 03/13/2025 at 4:29 ص

    … [Trackback]

    […] Here you can find 27740 more Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 03/19/2025 at 11:32 ص

    … [Trackback]

    […] Find More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • … [Trackback]

    […] Read More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • … [Trackback]

    […] There you can find 34198 additional Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 05/25/2025 at 10:53 م

    … [Trackback]

    […] Read More on to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More on on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 06/05/2025 at 1:54 ص

    … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 06/19/2025 at 3:17 م

    … [Trackback]

    […] Read More Information here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 07/06/2025 at 1:57 م

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 07/18/2025 at 7:54 م

    … [Trackback]

    […] Read More Info here on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 07/19/2025 at 12:47 ص

    … [Trackback]

    […] There you will find 9852 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 08/02/2025 at 3:34 م

    … [Trackback]

    […] Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 08/04/2025 at 2:39 ص

    … [Trackback]

    […] Find More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 08/10/2025 at 3:28 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 08/12/2025 at 2:50 ص

    … [Trackback]

    […] Information to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 08/13/2025 at 10:59 ص

    … [Trackback]

    […] Find More on that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 08/18/2025 at 4:28 ص

    … [Trackback]

    […] Read More to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

  • 08/29/2025 at 3:25 ص

    … [Trackback]

    […] There you can find 56853 more Info to that Topic: shar-magazine.com/arabic/2014/09/ذاكرة-مثقلة-بالحرب/ […]

Comments are closed.